استشرافٌ لاستراتيجية الولايات المتحدة في مواجهة الصين
يجدر بالأميركيين التحلّي بالصبر والتروّي لمجاراة الصين التي يعتمد قادتها على لعبة "wei qi"، الشّطرنج الصيني القائمة على اتخاذ خطوات مدروسة ومحسوبة وبطيئة لتحقيق مكاسب طويلة المدى.
يسيطر على دوائر الحكم في واشنطن العاصمة وعلى عقول المفكرين وصناع السياسات الأميركيين الخوف والحيرة من نهوض الصين، فماذا يعني أن يسيطر الخوف والتخبّط على عقول صناع السياسات والقرارات في أميركا؟ يعني ذلك أنّ ثمة فرصاً ستتوفر لأولئك الذين يريدون من الولايات المتحدة اتباع نهج أكثر عدائية محصلته صفر في العلاقات الخارجية لتمرير أجنداتهم، ما سيدفع بهم نحو حرب باردة مع الصين.
لذا، يجدر بالأميركيين التحلّي بالصبر والتروّي لمجاراة الصين التي يعتمد قادتها على لعبة "wei qi"، الشّطرنج الصيني القائمة على اتخاذ خطوات مدروسة ومحسوبة وبطيئة لتحقيق مكاسب طويلة المدى، والمناقض للشطرنج "الغربي" الذي يقوم على تحقيق مكاسب صغيرة وسريعة ومعدة مسبقاً للإطاحة بالـ"ملك".
إذاً، لو كان لدى أميركا استراتيجية عالمية شاملة للتعامل مع نهوض الصين، فإن أول ما ينبغي لها فعله هو التركيز وتغليب "منطق المواجهة غير الصدامية"، كما فعل جورج كينان، صاحب خطة "مارشال"، سابقاً مع الاتحاد السوفياتي. ثانياً، ينبغي لها التوقف عن التدخلات السلبية في الشرق الأوسط، والانسحاب من كل الحروب التي لا طائل منها. وبالتالي، على الولايات المتحدة تحويل ميزانيتها العسكرية إلى قطاع الدبلوماسية والعلاقات في وزارة الخارجية، وإلى مؤسسات الفكر ومراكز البحوث، وإلى قطاعات الصحة والخدمات.
ثالثاً، على الولايات المتحدة أن تشارك الصين المسرح الدولي بروح رياضية، فالصين الشيوعية برئاسة شي جينبينغ ليست كالاتحاد السوفياتي الشيوعي، بل هي صين يرأسها حزب شيوعي بخصائص صينية ذات مرونة وشباب وإمكانيات فردية هائلة، وهي صين غير توسعيّة (رغم قدرتها الفورية على ذلك)، وهي صين يدرس فيها صنّاع القرارات خطواتهم بعناية شديدة لا تقودها الشعارات الفلسفية والفكر التنظيري، بل تحكمها المصلحة فقط.
أما واقعاً، فلا يبدو أن واشنطن جاهزة للضغط على زر إعادة التشغيل في المدى المنظور، إذ إن الدولة العميقة ما تزال تحكمها الثلة البلوتوقراطية نفسها رغم التغييرات الشكلية. إذاً، تحتاج الولايات المتحدة إلى رسم وصوغ إطار عمل استراتيجي شامل وطويل المدى للتعامل مع نهوض الصين الحديثة والقوية. وعلى هذه الاستراتيجية أن تكون مرنة، وأن تأخذ في الاعتبار نيات بكين الاستراتيجية الجديدة وأهدافها وقدراتها، وأن تتناول بشكل مباشر المجالات التي تكون فيها تلك الأهداف مكمّلة أو متعارضة أو تنافسية مع المصالح الأميركية.
يتطلب هذا الأمر من الولايات المتحدة مواجهة نقاط ضعفها الخاصة والإشارة إليها بكل جرأة من دون تشنيع. أما مبادئ هذه الاستراتيجية، فهي كالتالي: أولاً، الحرص على وضع الولايات المتحدة على سكة المنطق السليم والوازن. ثانياً، الحفاظ على الأمن والاستقرار في آسيا وضمان حرية دول المنطقة بعيداً من سياسة البوارج وليّ الأذرع. ثالثاً، تعزيز القدرة التنافسية الاقتصادية للولايات المتحدة على المدى الطويل، وترك بلدان المنطقة لاتخاذ خياراتها الاقتصادية من دون اللجوء إلى الإكراه.
رابعاً، الدفاع بحقّ عن القيم الديموقراطية العالمية وحقوق الإنسان والقانون وسيادة الدول. خامساً، التوقّف الفوري عن تسليح الدولار وتهديد وضعه كعملة احتياط عالمية أولى. أما سادساً، فعلى الولايات المتحدة أن تتعاطى مع جبهاتها العديدة المفتوحة مع الصين بناء على 3 خيارات، وبحسب ما يفرضه كل منها: الحدّ والاستغلال والتنافس.
1- الحدّ: في المواضع التي تستغل فيها بكين الانفتاح الأميركي لصالحها على حساب الولايات المتحدة، يحق للأخيرة فرض قيود أو ضمانات جديدة. ومن وجهة نظر بكين، إن الأنظمة المفتوحة والليبرالية في الولايات المتحدة وغيرها تمنحها الفرصة لبسط نفوذها فيها، والحصول على المعلومات والتكنولوجيا الحساسة، وتعزيز مكانة الصين على حساب الدولة المستهدفة.
هنا، يمكن لأميركا مواجهة هذه الممارسات عبر تعزيز الشفافية والمساءلة، لكن على صانعي السياسة الحاليين الانتباه إلى 3 محاذير أثناء المواجهة: تجنب الإجراءات التي تتعارض مع حرية التعبير المشروع وحرية الصحافة والحرية الأكاديمية التي ينص عليها الدستور الأميركي نفسه، وتجنب الإجراءات التي تؤطّر تلك الممارسات بنحو عرقيّ، ما قد يؤدي إلى شيطنة وتمييز الأميركيين من أصل صيني، والشعب الصيني ككل.
وفي المجال الاقتصادي، أن تتجنب التدخلات التي تسعى إلى تقليل المشاركة التجارية بين الولايات المتحدة والصين في جميع المجالات، وتستهدف بدلاً من ذلك جهات فاعلة محددة تهدد الأمن القومي، من دون حظر جميع الطلاب الصينيين الذين يسعون للدراسة في الجامعات الأميركية، أو فرض قواعد أو مطالب على الكيانات الإعلامية الأميركية، أو تقييد أنواع معينة من برامج الجامعات، أو طرد الشركات الصينية التي تسعى إلى ممارسة الأعمال التجارية في الولايات المتحدة.
2- الاستغلال: حيث تتوافق النيات الاستراتيجية للصين مع الولايات المتحدة والمصالح العالمية الأوسع، فعلى الولايات المتحدة أن تسعى إلى الاستفادة من المبادرات الصينية بدلاً من الحدّ منها. تبرز فرص كهذه في قضايا المنافع العامة العالمية. بالنسبة إلى الصين، إن الإسراع في أداء دور أكبر في الجهود المتعددة الأطراف لمواجهة التحديات العالمية المشتركة يفي بهدفين وطنيين لها.
أولاً، ترحيب المجتمع الدولي بالصين ودعمها كقائد عالمي جديد، وذلك يوفر تأكيداً خارجياً على أن الحزب الشيوعي الصيني يستعيد مكانة الصين على خشبة المسرح العالمي. ثانياً، بينما تعمق الصين انخراطها في القضايا العالمية، تؤدي بكين دوراً نشطاً بشكل متزايد لتشكيل المؤسسات والمعايير العالمية بطرق تعزز مصالحها الوطنية. تمنح هذه الأهداف بيجينغ حوافز للتقدم إلى الأمام بطرق تستطيع الولايات المتحدة استغلالها، ويجب عليها ذلك.
من وجهة نظر الولايات المتحدة، عندما يتعيّن على الدول المتقدمة تقاسم العبء بعدل لمعالجة قضية عالمية مشتركة، كتغيّر المناخ، أو الحد من انتشار الأسلحة النووية، أو الإغاثة، أو الأوبئة، كما يحصل حالياً مع "COVID-19"، تُخدم هذه المصالح العالمية المشتركة على نحو أفضل، والصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم، فإذا سمحت الولايات المتحدة لها بالبروز في هذه المجالات، فلا شكّ في أن ذلك سيسهل للولايات المتحدة تحمّل بعض من ثقل دمها.
3- التنافس: عندما لا تواجه الولايات المتحدة بفعالية التحديات التي تفرضها الصين الجديدة، سيكون عليها تعزيز قدرتها التنافسية للهدف ذاته. تتنافس الصين مع الولايات المتحدة على 3 جبهات رئيسة: التفوق الاقتصاديّ والتقني، ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ، والنظام العالمي.
أولاً، تفشل الولايات المتحدة في القيام بالاستثمارات الاستراتيجية اللازمة في اقتصادها المحلي وسياستها الخارجية، فالأجور "كاسدة" على الرغم من النمو الاقتصادي القوي، والطبقة الوسطى الأميركية تتقلّص تدريجياً. وللمضي قدماً، يتحتّم على الولايات المتحدة أن تقوم بالاستثمارات اللازمة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والبحث والتطوير، وأن تقرن تلك الاستثمارات بالسياسات التي تضمن تحقيق توزيع عادل للمكاسب. يظهر نمط مماثل أيضاً من التخلف والفشل في السياسة الخارجية والأمنية، إذ ما تزال الولايات المتحدة منغرسة بمواردها وتركيزها الاستراتيجي بعمق في بقايا تحدياتها التي لا نفع منها في العقدين الماضيين.
ثانياً، تتجنَّب الصّين عموماً كلّ ما من شأنه أن يؤدّي إلى صراع مباشر أو إلى زعزعة الاستقرار في العلاقات الأميركية الصينيّة. بدلاً من ذلك، تقوم بسلسلة من التحركات التدريجية، بما لا يستدعي حدوث استجابة كبيرة من الولايات المتّحدة، كما في لعبة "Wei Qi"، وهو ما يضع صناع السياسات في الولايات المتحدة والحكومات الإقليمية موضع حيرة. من الناحية الاقتصاديّة، تمكِّن عمليات الاستحواذ التكنولوجية والسياسات الصناعية التكنولوجية والمبادرات (BRI) الصين من السّيطرة على الأسواق العالمية، لتستخدمها في تطويع البلدان سياسياً.
عسكرياً، بذلت الصين جهوداً ضخمة لتحديث جسمها العسكري بهدف التناظر بالقوة مع القوات الأميركية، وتقويض الثقة الإقليمية بالمصداقية الأميركية الأمنية، وجعل الاستقرار البحري الإقليمي خاضعاً للمشيئة الصينية. لمواجهة هذا المأزق، على الولايات المتحدة أن ترمي ببصرها أبعد من الإلهاءات التكتيكية الصينية، سواء في بحرها الجنوبي أو غيره، فالهدف ليس منع الصين من الصعود أو إيقاف نموها، بل تعزيز القدرة التنافسية الأميركية والتنافس القيمي والفكري، لا الانجرار نحو مناوشة هنا أو استفزاز هناك، وهو ما تخشاه الصين فعلاً.