قراءة في السياسة الخارجية المقبلة للولايات المتحدة الأميركية
سيحتاج جو بايدن إلى عامٍ كامل على الأقلّ لتصحيح ما ارتكبه سلفه ترامب والعودة تدريجياً إلى السياسة التقليدية للولايات المتحدة الأميركية.
تميّزت السياسة الأميركية منذ نشأتها بعدة سماتٍ رئيسية استمرّت حتى تاريخنا الحالي، وأهمها:
السمة الاولى هي أن التجارة والاقتصاد يُعتبران عماد السياسة الخارجية والمحرّك الأوّل لها، وذلك لحماية شركاتها ومصالحها وتحقيق أعلى رفاهيةٍ ممكنة لمجتمعها. ومن هنا، تعمل الحكومة الفيدرالية إلى جانب الشركات الأميركية الكبرى، فتحميها وتحقّق مصالحها وتنسّق معها لتؤمّن نظاماً اقتصادياً ينتشر في العالم، ويمكّن شركاتها من العمل بيُسرٍ وسهولة. فإذا قامت دولةٌ أو أكثر بتهديد مصالح هذه الشركات، ستتشكّل تحالفات دولية لمواجهة هذه الدولة "المارقة" بكل الوسائل الممكنة، بدءاً بالتحريض على حدوث انقلابٍ فيها، ومن ثمّ فرض الحصار عليها، وصولاً إلى احتلالها.
أما السّمة الثانية، فتتعلّق بمفاهيم اقتصاد السوق الرأسمالية، وهو ما يتطلّب تحقيق نوعٍ من التحالفات مع دولٍ أخرى، خاصةً تلك التي تعتنق هذه التوجّهات كالمملكة المتحدة. لذلك، عمدت إلى تبنّي نظامٍ عالميّ يساهم في نشر هذه الأفكار ويشرف عليها كما في الأمم المتحدة والبنك الدولي.
أمّا السّمة الثالثة، فتتعلّق بتحقيق الربح، وهو الهدف الأساسي لدى الشركات الأميركية. وللوصول إلى هذه الغاية، يجب فعل كلّ شيءٍ حتى لو غضّت الطّرف عن القيم الأميركية وانتشار الديمقراطية، ولهذا السبب نجدها في كثيرٍ من الأحيان تقوم بدعم غالبية الأنظمة الدكتاتورية طالما ذلك يساعد على تحقيق هذا الهدف.
أما السّمة الرابعة والأخيرة، فتتمثّل في رفض الولايات المتحدة الأميركية مقارنة نفسها ببقية دول العالم، حتّى العظمى منها، فهي تجد نفسها امبراطوريةً تتألف من 50 دولة متّحدة، لديها قوّةٌ عسكرية هائلة تمتدّ على مساحة بقاع الأرض، وتفوّقٌ تكنولوجي هائل، واقتصادٌ متغلغل في معظم دول العالم.
بعد أن تمّت الانتخابات الأميركية الجديدة وفاز بها الديموقراطي جو بايدن، على الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، لا بدّ من استعراض الأزمة الحالية التي تمرّ بها الولايات المتحدة الأميركية التي تسبّبَ بها ترامب نتيجة خروجه عن مسار سياستها التقليدية التي لا تتّفق مع نوايا الرئيس الجديد (بايدن) عموماً.
الرئيس دونالد ترامب، وتحت شعار أميركا أولاً (أي مصلحة المواطن الأميركي فوق كل اعتبار)، سار بشكلٍ عام نحو الانغلاق والعدوانية، مبتعداً عن القواعد الأميركية المتعارف عليها، وعن نشر العولمة والأفكار الديمقراطية وحقوق الإنسان.
فعندما عمل ترامب على توسيع الاتفاقات التجارية مع دول العالم، لم يرَ سوى تحقيق مصالح الولايات المتحدة الأميركية، دون أن يأخذ بعين الاعتبار مصالح حلفائه، ولا النظام الذي يسير عليه العالم بأكمله. ومن هنا، نرى أنه قام بفرض خطة القرن دون النّظر إلى مصالح الشعب الفلسطيني، فنقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة، ثم أقرّ بتبعيّة الجولان السوري المحتل لـ"إسرائيل"، وتنازل عن أراضٍ فلسطينية لصالح الصهاينة، بل وصل في غطرسته إلى الاعتراف بضمّ الصحراء الغربية إلى المملكة المغربية متجاوزاً كل القرارات الدولية التي نصّت بمجملها على عكس ما جاء به الرئيس ترامب.
جو بايدن الرئيس المنتخب، سيبقى في وضعٍ لا يُحسد عليه، وسيجد نفسه أمام تغيّرٍ كبير طرأ على السياسة الأميركية الخارجية بعد أن ورّطها ترامب في قضايا كثيرة خارجة عن القانون والعرف الدوليين. وهذا ما سيشكّل له الكثير من القلق والصعوبات، وقد تصطدم تطلّعاته بـ 74 مليون ناخب أميركي صوّتوا له، وربما يؤثر على جميع الولايات التي يتواجد هؤلاء الناخبون فيها.
يرى جو بايدن كما الرؤساء السابقين بخلاف ترامب، ضرورة الحفاظ على النظام العالمي المتمثل بالرأسمالية والعولمة والأسواق المفتوحة والتحالفات مع الدول الأخرى ودعمها واحتواء أعدائها، وهو النظام ذاته الذي أسّسته الولايات المتحدة الأميركية وعملت به لعقودٍ طويلة، تحديداً منذ الحرب العالمية الثانية. هو يسعى إلى الحفاظ على حلفاء بلاده وعلى مركزهم داخل المؤسسات الدولية، ومن ثمّ العودة ثانيةً إلى الاتفاقيات الدولية التي خرج عنها سلفه مثل منظمة الصحة العالمية واتفاقيات باريس والحدّ من انتشار الأسلحة وغيرها.
أما بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط، نجد أنّ الحملة الانتخابية لا تتطرّق كثيراً إلى مشاكلها، باستثناء بعض القضايا المحدّدة التي تمّت الإشارة إليها بشكلٍ غير مكثّف، وهي: الصين وروسيا والجنود الأميركيون في العراق وسوريا. لكنّ بايدن سبق وأشار إلى موضوعين مهمّين قبل ترشحه للرئاسة، وهما القضية الفلسطينية وموضوع الملف الإيراني.
في القضية الفلسطينية، وقبل كل شيء، يجب أن نتذكّر إعلان بايدن عام 2007 عندما قال: أنا صهيوني محبٌّ لـ"إسرائيل"، وقد استطاع أن يؤسّس لعلاقاتٍ قوية معها منذ عدة عقود، تحديداً منذ أن أصبح عضواً في مجلس الشيوخ 1973. لكنّه يؤمن بحلّ الدولتين، ويعارض ضمّ الضفة الغربية وتوسيع المستوطنات، ومن الممكن أن يعيد المساعدات للفلسطينيين التي جمدها ترامب، ويأمر بإعادة فتح مكاتب التمثيل الفلسطينية في بلاده. لقد سبق لجو بايدن أن انتقد موقف ترامب لدى نقله سفارة بلاده إلى القدس المحتلة، لكنه أعلن في المقابل، "بما أنّ ذلك قد تمّ، فلن أغيّر شيئاً من ذلك"، كما أنه امتدح موقف ترامب من اتفاقيات التطبيع وأعلن دعمه لعقد المزيد منها.
الواقع يدلّ على رغبة الرئيس بايدن في التواصل مع الجانب الفلسطيني، ولكن ذلك لا يعني تغيير شيء، أو تحقيق اختراقٍ مهمّ بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، بيد أنه قد يتمسّك بالقرارات الدولية الصادرة بشأن القضية الفلسطينية للوصول إلى حلٍّ وسط يرضي الطرفين.
أما في ما يتعلق بالملف الإيراني، فمن المعروف أنّ جو بايدن انتقد بشدّة الاجراءات التي اتّبعها سلفه ترامب في خروجه عن الاتفاق عام 2018. فهو بالرغم من اعتباره أنّ إيران تشكّل "مصدر اضطراب" في المنطقة، لكنّه يجد ضرورةً في إشراكها بالترتيبات السياسية والأمنية لصعوبة تجاهلها. وبالتالي، فإنّ العودة إلى الاتفاق النووي، سيشكّل احتواءً لكلّ مشاكل المنطقة. لكنه سيواجه بالمقابل ضغوطاً من حلفائه في الخليج وحتى من "إسرائيل". وقد بدأ هؤلاء الحلفاء في اتخاذ عدة إجراءات لمواجهته سلباً وإيجاباً، كإعادة العلاقات مع قطر مثلاً بعد قطيعةٍ دامت أكثر من 3 سنوات، وقيام السعودية بمغازلة تركيا، وتلميحاتها بشأن اتفاقيات التطبيع التي لم تعترض عليها.
لقد سبق وانتقد جو بايدن، أكثر من مرة خلال تصريحاته العامة، قادةً في الشرق الأوسط خاصةً مَن حظيَ بعلاقاتٍ خاصة مع ترامب. فقد وصف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بأنه ديكتاتور ترامب المفضل، كما وصف الرئيس التركي بأنه مستبدّ ويغذّي داعش، ودعم المعارضة لهزيمة إردوغان، متعهداً بمعاقبة تركيا لشرائها صواريخ S 400 من روسيا استناداً إلى القانون الأميركي الذي يُخضع الدول للعقوبات إذا ما قامت بشراء أسلحة متقدّمة من روسيا.
أما بالنسبة للسعودية، فقد هاجم ملفّ حقوق الإنسان فيها، ووصفها بأنها دولةٌ منبوذة وبأنه سيعيد النظر بعلاقات بلاده مع الرياض، معتبراً أنّ السياسة المتعلقة بالشرق الأوسط تُصنع في واشنطن وليس في الرياض، وبأنه لن يسمح ببيع الأسلحة لها، خاصةً بعد اتركابها جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي في قنصليّتها في تركيا بطريقةٍ وحشية، كما هاجم موقفها وتدخّلها في حرب اليمن، متعهداً بوضع حدٍّ لها.
تتركّز الأولوية في السياسة الخارجية لجو بايدن على ملفيّ روسيا والصين، وهو يحتاج في مواجهتهما إلى التحرك باتجاه التخلي عن الأنظمة التي يراها مسبّبة للاضطرابات في منطقة الشرق الأوسط، وذلك لتحقيق نوعٍ من الاستقرار في المنطقة. ومن هنا، يرى بايدن أنّ عودة بلاده إلى الاتفاق النووي مع إيران هو خطوة كبيرة في تحقيق هذا الاستقرار، لبدء تخفيف تواجد بلاده في المنطقة والتفرغ لملفي روسيا والصين. كما أنّه يحتاج إلى الكثير من التهدئة لمعالجة الوضع الداخلي في بلاده وخاصةً موضوع القضاء على فايروس كورونا واستمالة ناخبي ترامب الذي يُقدّر عددهم بـ 74 مليون ناخب. ولذلك، نجد أنّه سارع في تأليف فريقٍ من المستشارين والخبراء بلغ عددهم 2000 متخصّص.
وبذلك، سيحتاج جو بايدن إلى عامٍ كامل على الأقلّ لتصحيح ما ارتكبه سلفه ترامب والعودة تدريجياً إلى السياسة التقليدية للولايات المتحدة الأميركية.