حرب الفوضى الخلاقة والعمى السياسي المبرمج (1/2)
لقد حاول ترامب، طوال عهده الرئاسي، توصيف الأنظمة، بشكلٍ أسوأ مما هو عليه الآن، وممن سبقوه في الرئاسة، مستخدماً اتهاماتٍ هي بالأساس جزءٌ من تاريخ أميركا وأوروبا.
يتساءل الأميركيون ويقولون لولا الجرائم التي ارتكبها "جورج بوش" وابنه، لما كان أسامة بن لادن، ولما حدث ما حدث لأميركا في 11 أيلول/ سبتمبر. وتساءل الفرنسيون وعلى رأسهم المرشحة للرئاسة الفرنسية سابقاً السيدة روايال "لماذا يغامر ساركوزي بالسياسة الفرنسية في ليبيا ويخلط بين عنف الجنس والرئاسة؟". تساءل الكل عن حروبٍ يلعب فيها الغرب لعبة الخراب والانهيار، ولا يأخذ منها شيئاً، فالحقيقة بيد الشعوب وليست بيد الحكام المبهورين بحانات العصر الحجري. ويتساءلون بدموعٍ خلّفوها على رماد التاريخ "هل هؤلاء القتلى والجرحى من منطق الواقع الحضاري للبشرية، أم أنهم من بقايا التصوّر الجاهلي؟
مهما كان الجواب، ومهما كانت المبررات، فحكم التاريخ مثل حكم الأقدار، ومحاسبة الشعوب لساستهم ثابتٌ وإن طال الأمد. ما يجري في ليبيا بتوجيهٍ فرنسي وقطري وإماراتي، هو بالتأكيد إرهاب الدولة. وإنّ دولاً بهذا المنطق، هي المؤسِسة للإرهاب، وليس أطرافٌ أخرى تدافع عن وجودها بالوسيلة والمنطق ذاته. في أميركا، يقولون نحن ضد الإرهاب بممارسات "الكابرانان" بوش الأب وبوش الإبن" على عقدين من الزمن تقريباً، ونحن الآن محاطون بطوقٍ آخر يزرع الخوف فينا بالكذب الذي مارسه "أوباما" ضد الجميع، وهو يخاطب العالم الإسلامي ويعده بالحرية والديمقراطية. يقولون ذلك وهم صامتون.
توزيع الدم و"تفقيس" الإرهاب
إن الاستراتجية الأميركية وأتباعها من الغرب، قائمةٌ على توزيع الدم و"تفقيس" الإرهاب، فهي تعطي التاريخ صفة الحمار الذي ينفض بذيله الذباب، هو والذين يتحكمون به، كما لو أنهم يؤمنون أنّ للتاريخ ذيلاً وللجغرافيا مداراً مغايراً. بالتأكيد، إنّ حاصل الوجع التاريخي في كل دولةٍ يسودها الظلم ويكسوها غبار الحروب، هو شبيه حاصل عكاز الأعمى.
لذلك، هناك اليوم أسئلةٌ وهروبٌ من مواجهة الحقيقية في ليبيا، مما يُعرف بالائتلاف التركي الإماراتي (أي الخراب الدولي). إنها مواجهة الذات أو مواجهة الشرعية الدولية التي يتذرّعون بها. أحياناً يقولون أنّ القذافي مات، وتارةً يقولون أنه يمارس الاغتصاب، ومن ثم ينظرون إلى وجوههم في المرآة فلا يجدون غير التجاعيد التي تركتها الهزائم. إننا إذن أمام منطق "الفوضى هي الحضارة" و "الكذب هو النجاح". لم تسقط ليبيا بالديمقراطية كما حدّدوا في أجندتهم ولا سوريا هُزمت، ولم يثر الشعب ضد بلده في الجزائر لأنه يعرف عوراتهم السياسية، ولم تدّخر الفوضى إلاّ طحين فلسفة الإغريق فيما يُعرف بحصان طروادة. لكن من يمتلك القوة من أجل الخراب لا يملك التاريخ، ومن يعانق المشانق حباً فيها، لن يكون سوى وثن أصاب فيه المرجفون عفونة فشلهم.
من حق الرئيس الأميركي "أوباما" أن يقول "بات من العادة التساؤل عما إذا كان صعود دولٍ جديدةٍ سيترافق مع هبوط النفوذ الأوروبي الأميركي في العالم"، وأضاف "الحجة تقول أنّ لهذه الدول مستقبلاً وأنّ دورنا القيادي انتهى، هذه حجة باطلة"، ولكن ليس من حقه أن يقول هو ورئيس وزراء بريطانيا "الدفع من أجل الديمقراطية في العالم العربي، ولو باللجوء إلى الحل العسكري كملاذٍ أخيرٍ ضد الأنظمة التي تقتل شعوبها". ليس من حقه إطلاقاً أن يضع نفسه فوق الجميع، وأن يرى نفسه الوجه الآخر للفراعنة في زمن الإجرام المقنّن.
كان الأجدر به وبمن وافق على هذا القول، أن ينظر إلى تاريخه. هو تاريخٌ ظلّ عقوداً من الزمن في الأسر، وما زال حتى الآن، البعض منه خارج حركة الواقع والفعل.
لقد حاول ترامب، طوال عهده الرئاسي، توصيف الأنظمة، بشكلٍ أسوأ مما هو عليه الآن، وممن سبقوه في الرئاسة، مستخدماً اتهاماتٍ هي بالأساس جزءٌ من تاريخ أميركا وأوروبا. رأينا اليوم وببساطة، ومن دون رؤى جارفة أو جارحة، أين نشأت المافيا وأين نبتت جذور الاستعمار، وأين ظهر الإرهاب والتطرف.
لقد صنعت أوروبا المافيا ومعها النازية وديكتاتورية "فرانكو" و "سالازار". أوروبا صنعت الثورات الحمراء وأضاعت فيها قيم المسيحية التي تحاول عبثاً الاستناد إليها كلما جاءها الخراب. وقتها، لم يكن العالم إلا رمزاً للتسامح. أما الولايات المتحدة، فقد شنّت حروبها الإجرامية بدءاً من إبادتها للسكان الأصليين، ومن ثم أطلقت اعتداءاتها ضد دول العالم دون استثناء، فضلاً عن جرائمها التي ارتُكبت في أميركا اللاتينية وفي جزءٍ من أوروبا خاصةً اليونان - في عهد حكم اليسار- وهناك من المؤرخين من يقول بالتأكيد إنّ أجهزة المخابرات المركزية (CIA) الأميركية قتلت أكثر من 30000 شخص في اليونان فقط. يؤكد عالِم الاجتماع الأميركي"نعوم تشومسكي" بالأدلة والوثائق في كتبه، أنّ هذه الأجهزة ارتكبت أبشع الجرائم، حيث قامت بسلخ جلود الرهبان وهم أحياء في أميركا اللاتينية، من أجل البحث عن شخصٍ مناهضٍ لأميركا.
في الولايات المتحدة الأميركية، أصداءٌ بأنّ هذه الأجهزة نفسها قتلت أسامة بن لادن. ولو أنّ أميركا كفّت عن الإجرام، وأرست المصالحات، لما خسرت تلك التريليونات من الدولارات من أجل البحث عن شخصٍ، ولما زُهقت تلك الأرواح سواءٌ من الجنود الأميركيين أو غيرهم في العراق وأفغانستان (إذ فاق العدد 40000 بين قتيلٍ وجريح من جنودها)، فضلاً عن 100000 أو أكثر من المعوّقين والمشوهين نفسياً. لو أن أميركا كفّت عن جرائمها من أجل حماية "إسرائيل" وبعض الأنظمة الموالية لها في الخليج، لما أصابها ما أصابها من هلعٍ أدّى إلى خلق أزماتٍ ماليةٍ في عقر دارها وإفلاس أكبر شركاتها.
يتساءل الشعب الأميركي أيضاً، لماذا نقاتل الآخرين، ولماذا أصبح الواحد منا يخاف من ظلّه كلما أُشيع عن طردٍ مشبوهٍ، حقيبةٍ أو صاحب لحية؟
تبيّن أنّ ادعاءات "أوباما" و"هولاند" و"ماكرون" و"ترامب" لاحقاً، هي ادعاءاتٌ لا تخلو من الجنون والشعوذة. وترى الأمين العام السابق للأمم المتحدة "بان كي مون"، منذ اليوم الأول من تعيينه، أشبه بدميةٍ تلعب بها الأجهزة الأمنية الغربية، وقد كشفت وثائق "ويكيليكس" بالأدلة أنّ مكتبه مليءٌ بأجهزة التصنت. نعم، لقد جيء به وبأخطائه وخطاياه كي يكملوا به المشوار السياسي المبني على الجريمة ضد العالم العربي.
يقول الأميركيون دون حرج أنّ جرائم "بوش الأب والإبن" و"أوباما"، هي سبب ظهور أسامة بن لادن، وأنّ ما أصاب الولايات المتحدة الأميركية في 11 أيلول/ سبتمبر كان نتيجة هذه الجرائم، وأنّ المسؤولية في ذلك تقع على هؤلاء، ويتخوّفون من استمرارها في وجدانهم إلى ما لا نهاية، ما دام الغزو الأميركي للعالم مستمراً.