العام 2020 في لبنان.. الانتكاسات المالية والاقتصادية
سُمع دويٌّ هائل صُنّف من الأضخم في تاريخ العالم، وذلك في مرفأ بيروت. انهارت أجزاءٌ واسعة من المبنى، وتهدّمت آلاف المنازل والمؤسسات، وقُدّرت حجم الخسائر بـ10 مليار دولار.
شهد العام 2020 تحوّلاتٌ اقتصادية ومالية كبرى في لبنان جرّاء الأزمة التي شهدها القطاع المصرفي الذي أغلق أبوابه لمدّة أسبوعين، فامتنعت المصارف عن السماح لعملائها بسحب ودائعهم جرّاء تقنين السيولة بالعملة الصعبة، وأُخرج الدولار من التداول الرسمي، ما رفع من ندرته في السوق.
في سياقٍ آخر، افتُتح العام 2020 على تكليف الرئيس حسّان دياب بتشكيل الحكومة، ليتخطّى الدولار حاجز ال 2000 ليرة طوال الشهر الأوّل من العام الجديد الذي شهد إقبال العملاء على بيع الشيكات المصرفية، في محاولةٍ لتحصيل جزءٍ من حقوقهم مقابل الدولار النقدي، بنسبة خسائر شارفت 25%، بعدما طلب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من المصارف عدم دفع أموال المودعين بالعملات الأجنبية. في هذا المضمار، قال رياض سلامة: "نحن في لبنان، ويحقّ للبنوك عدم الدفع بالدولار"، فاتّخذت بعض المصارف كلامه ذريعةً، واتّجهت نحو مزيدٍ من التقنين، ليصل حجم السحوبات الأسبوعية المسموح بها للمودع إلى 50 دولار فقط، فيما امتنع البعض الآخر بالكامل عن تنفيذ هذا القرار، قبل أن يتخطّى الدولار عتبة الـ 2250 وبعد نيل حكومة الرئيس حسّان دياب الثقة في 11 شباط/ فبراير 2020. في هذه الفترة، تابعت العملة الخضراء تحليقها لتقارب عتبة الـ 2500، في ظلّ وعودٍ بتنفيذ خطّةٍ إصلاحيّةٍ أقرّتها الحكومة، ورفضها حاكم المصرف المركزي وجمعية المصارف. لكنّ مع حلول نكبة كورونا، واصل الدولار ارتفاعه مع انخفاضٍ مستمرٍّ للقيمة الشرائية لدى المواطنين الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية، وبالتالي اضطرّت الحكومة إلى إعلان حالة التعبئة والإقفال التامّ لأكثر من شهرين.
وبالرغم من الإقفال الذي بدأ في آذار/مارس، أعلن الرئيس حسان دياب في الأسبوع الأوّل، تمنّع الحكومة عن دفع سندات اليوروبوند بالعملة الصّعبة للعام 2020، ما أثار حملة ردودٍ عنيفة منتقدةً هذه الخطوة، بحيث تتخطّى قيمة هذه السندات المليار ونصف دولار.
إنّ القرار الذي اتّخذته الحكومة، كان بهدف الاحتفاظ بالدولارات المتبقّية لدى المصرف المركزي لمواصلة دعم المشتقّات النفطية والدواء والقمح، إلّا أنّ سعر الدولار استمرّ في الصعود بحيث وصل مطلع نيسان إلى 2800 ليرة ليتخطّى للمرة الأولى عتبة الـ 3000 منذ عام 1992، ويقفل شهر نيسان/ أبريل على رقم قياسي جديد حيث بلغ 3950 ليرة للدولار الواحد. أعدّت الحكومة خطة "لازار" في محاولةٍ لإنقاذ الوضع، وبدأت جولاتٌ مكوكيّة من المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، إلّا أنّ عدم توحيد الأرقام واختلافها بين وزارة المال والمصرف المركزي أطاح بالمفاوضات التي عُلّقَت في ظلّ متابعة الدولار تحليقه ليتجاوز الـ 5000 ليرة في أيار/ مايو دون أيّ تغيير، بالرغم من إعلان حاكم المصرف المركزي عن إعداد منصةٍ إلكترونية تسمح ببيع الدولار بسعر 3200 ليرة.
لم يؤثّر هذا الإعلان على واقع الصرف، إذ انخفض الدولار قليلاً نهاية أيار/ مايو قبل أن يسجّل قفزةً غير مسبوقة في حزيران/ يونيو، وهو الشهر المفصليّ الذي سجّل بداية ارتفاع الدولار الجنوني. قفز سعر الصّرف إلى 4150 ليرة، وتخطّى سريعاً حاجز الـ 5000 ليشتعل الشارع، ويجتمع الرؤساء، وتُطرح إقالة حاكم مصرف لبنان، ولكن كلّ التحرّكات باءت بالفشل. بعدها، يخرج رئيس مجلس النواب نبيه بري بوعد بتخفيض السعر إلى معدّل 3200 ليرة خلال أيام، حيث عاد الدولار للانخفاض دون أن يتجاوز حاجز الـ 4000 في السابع من حزيران/ يونيو.
أما النصف الآخر من السنة، فهو قصّةٌ أخرى. عملت وزارة الاقتصاد على خطّة دعم ما يفوق الـ 300 سلعة استهلاكيّة بواسطة الدولار المدعوم من المصرف المركزي، وذلك باعتماد سعر المنصّة، أي 3900 ليرة، وإذ بالدولار يقفز نهاية شهر حزيران/ يونيو إلى 10000 ليرة.
وفي ظلّ هذه القفزات القياسيّة، كان المطار مغلقاً أمام حركة الطيران باستثناء رحلاتٍ محدّدة تُقِلُّ لبنانيين فرّوا من انتشار وباء كورونا حول العالم. ترافقت حركة دخول المهاجرين مع تدفّق العملات الأجنبية وعلى رأسها الدولار، من دون أن يؤثّر هذا الضخّ على سعر الصّرف الذي عاد وانخفض إلى حدود 6000 ليرة في الأسبوع الأوّل من تموز/ يوليو قبل أن يستقرّ الصّرف بين 7000 و8000 ليرة إلى حين موعد الكارثة: انفجار المرفأ.
سُمع دويٌّ هائل صُنّف من الأضخم في تاريخ العالم، وذلك في مرفأ بيروت. انهارت أجزاءٌ واسعة من المبنى، وتهدّمت آلاف المنازل والمؤسسات، وقُدّرت حجم الخسائر بـ10 مليار دولار. انعكست هذه الكارثة سياسياً على حكومة الرئيس حسان دياب، فبدأ بعض وزرائها بتقديم استقالاتهم بشكلٍ فردي، ثمّ ما لبث رئيس الحكومة أن تقدّم باستقالته بعدما طالب بانتخاباتٍ نيابيّةٍ مبكرة.
بعد انفجار المرفأ، دخل البلد في الفراغ الحكومي حيث واصل الدولار تحليقه بالرغم من حضور الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون، ووعده بمساعدة لبنان، والإعداد لمؤتمرٍ لدعم المتضررين تمخّض عن 300 مليون يورو، دون أن ينجح في ترجمة مبادرته خلال الزيارة الثانية بمناسبة الذكرى المئوية للبنان الكبير. في هذه المناسبة، وعد الزعماء بالاسراع في تشكيل الحكومة، واختير سفير لبنان في ألمانيا مصطفى أديب لإتمام هذه المهمّة، إلّا أنّه ما لبث أن اعتذر لعدم استطاعته تأليف حكومة اختصصايين مستقلين، ليعود بعدها الدولار ويرتفع إلى الـ 9000 ليرة.
أثناء هذه الفترة، أعلن الرئيس سعد الحريري، أنّه المرشح الطبيعي لتشكيل الحكومة، وتمّ تكليفه بعد استشاراتٍ أدّت إلى هبوطٍ كبيرٍ للدولار وصل إلى حدود 6200 ليرة، ما يؤشّر على أنّ الدولار، رهينة التطبيقات والصرّافين والمصارف، هو سياسي بمتياز. في هذه الأثناء، كان حاكم مصرف لبنان يطبع العملة الوطنيّة، ما أدّى إلى تضخّمٍ تخطّى الـ 155 بالمئة، ونسبِ فقرٍ تزايدت مع غلاء الأسعار والمعيشة لتنخفض القدرة الشرائية لدى الموظفين حتى حدود %20.
ومع تعثّر تشكيل الحكومة، عاد الدولار ليحلّق، حيث وصل لحوالي 8500 ليرة مقفلاً العام على سلسلةٍ من الأزمات، بعدما انخفض الاحتياطي الإلزامي بصورةٍ غير مسبوقة، فبات المصرف المركزي عاجزاً عن الاستمرار في سياسة الدعم المتّبعة، بعد إقراض المصارف 7 مليارات دولار بفائدةٍ تصل إلى %20.
كلّفت سياسة الدعم هذه، حوالى 700 مليون دولار شهرياً حيث يُنتظر أن تبدأ سياسة الترشيد مطلع العام الجديد، فتنخفض بالتالي أسعار السلع المدعومة التي لم يستفد منها إلاّ المحتكرون. ومع الحديث عن رفع الدعم عن الوقود بشكلٍ تدريجي، قد تصل سعر صفيحة البنزين إلى 40000 ليرة في الشهر الأوّل من العام الجديد. تعمل الحكومة اللبنانية أيضاً على تخفيض فاتورة استيراد الدواء واستبدال البراند بالجنريك، لكنّ الاتفاق الذي أُبرم نهاية العام، بوساطة المدير العام للأمن العام اللبناني اللواء عباس إبراهيم مع وزارة النفط العراقية، والذي يؤمّن للبنان استيراد النفط بموجب تسديدٍ مؤجّلٍ لعامٍ واحد، سيحدّ من حاجة المصرف المركزي إلى العملة الصعبة التي ينبغي عليه تأمينها لمعالجة النفط وتكريره قبل إحضاره إلى لبنان.
وفي ظلّ غياب خطط الإنتاج، والاعتماد على الديون ووصفة صندوق النقد الدولي التي تهدف إلى رفع الدعم وتحرير سعر الصرف، ينعدم الأمل في الخروج من الأزمة. ما زال المصرف المركزي يسعّر الدواء والنفط والقمح على أساس 1500 و3900 للسلع المدعومة وسحوبات المودعين. بدلًا من الدولارات التي ضاعت، إنّ الحلّ حقيقي شبه مستحيل، خاصةً وأنّ القطاع المصرفي مقبلٌ على تبدّلات كبيرة، فإعادة رسملة المصارف ستؤدّي حتماً إلى تقليص حجمه ودمج بعض المصارف.
أمّا بالنسبة للودائع، فهي مجهولة المصير لأنّ المصرف المركزي يقول إنّها في عهدة البنوك، التي بدورها، تقول أنّها أقرضت الدولة. ومن الجدير ذكره أنّ غالبية دين الدولة هو بالليرة وليس بالدولار. ويرى المتتبّعون للوضع اللبناني أنّ الأزمة تأخّر انفجارها بسبب محاولات كسب الوقت، والهندسات المالية التي قام بها المصرف المركزي، مما أغدقت على المصارف أرباحاً طائلة بعدما بدأ العجز بميزان المدفوعات والميزان التجاري يتراكمان منذ عقدٍ من الزمن.
في حينه، كان لبنان قد سجّل إيراداتٍ بقيمة 20 مليار دولار نهاية 2019، مع صادراتٍ بالكاد وصلت إلى 3 مليارات. إضافةً إلى ذلك، سُجّل انخفاضٌ في التحويلات من الخارج بسبب العقوبات الأميركية التي سبقت الأزمة، نذكر منها إدراج مصرف الجمّال نهاية آب/ أغسطس 2019 على لائحة "الأوفاك"، ما أدّى إلى انسحابه من السوق، أضف إلى ذلك حديث المساعد السابق لوزير الخزانة الأميركية حول وجود دولاراتٍ أكبر من حاجة لبنان في أيلول/ سبتمبر، تاريخ بدء الأزمة.
ومع طرح خيار التوجه شرقاً صيف 2020، باتّجاه روسيا والصين على وجه الخصوص، وفي ظلّ تقاعص غالبيّة الفرقاء السياسيين عن الذهاب نحو تنويع خيارات البلد الاقتصادية، تؤشّر المعطيات الموجودة، بالرغم من انخفاضٍ غير مسبوقٍ لحجم الاستيراد، أنّ السنوات المقبلة ستزخم بالصعوبات المالية والنقدية، ولن يعود اللبناني إلى حياة الرفاهية بعد الآن.
فهل سيكون العام 2021 مختلفاً عن سلفه لناحية انخفاض سعر اللّيرة مقابل الدولار؟