اعتراف أميركا بـ"مغربيّة الصحراء".. ماذا بعد؟
ما سأطرحه من أسئلةٍ هو فقط من أجل تفكيك هذه المتلازمة التي رُبطت من خلالها الدولة والحكومة و"الوحدة الترابية" بعمليّة التطبيع مع "إسرائيل".
نأيتُ بنفسي عن الإدلاء بأيّ موقفٍ يخصّ التطوّرات الأخيرة التي شهدها ملف جبهة الصحراء المغربيّة مؤخّراً، خاصةً مع تسارع الأحداث بشأنها، حتى تظنّ وكأنك أمام سيمفونية تعزف في تكاملٍ تامّ بين جميع عناصرها التي، وإن بدت متصارعةً في ما بينها، إلاّ أنّ النتائج التي أفضت إليها تؤكّد على أنّ المزاد السياسي قد طال كلّ القضايا، بما فيها ما كان يندرج ضمن القضايا الوطنية والسيادية التي تسمو فوق رهانات الربح والخسارة، كونها تستمدّ مشروعيّتها من الإيمان بها واستعداد الشعوب لتقديم كلّ التضحيات من أجلها .
عندما أستعرض مسلسل الأحداث التي شهدتها هذه القضيّة فإن الشعب المغربي يعتبرها قضيّته الأولى، رغم أنّها قابعةٌ في رفوف اللّجنة الرابعة للأمم المتحدة، نتيجةَ أخطاءٍ فادحةٍ للدبلوماسية المغربية في تدبيرها لهذا الملف خارجياً، وانفراد الدولة في تدببره داخلياً مع كلّ الأخطاء التي رافقت هذا التدبير السيء الذي لم يستطع أن يُطمئنَ بما يكفي مواطنينا الصحراويين، وبالتالي أن يُنمّي لديهم إحساس الانتماء للوطن الأمّ بإشراكهم الفعلي في تدبير شؤونهم ضمن خصوصيّاتهم الجهويّة ووفق آليات حكمٍ ديمقراطية.
حتى ما تمّ طرحه كمشروع حكمٍ ذاتيّ لهذه الأقاليم، بقي حبيس الرفوف لما يُقارب الـ20 سنة، من دون أن تعبّر الدولة عن أيّ إرادةٍ فعليّةٍ على أرض الواقع عبر تشريعاتها وقوانينها، سواء من خلال الإصلاح الدستوري لسنة 2011 الذي أغفل أيّ إشارةٍ لمقترح الحكم الذاتي، أو من خلال قانون إصلاح الأحزاب الذي منع تكوين أحزابٍ جهويّة، والذي تمّ التأكيد عليه دستورياً في التعديل الأخير.
وهو ما يلغي الطرف الآخر المفاوض المتمثّل في جبهة البوليساريو، الذي سُدّ الطريق عليه عملياً حتى لا يتحوّلَ إلى حزبٍ سياسيٍّ جهويّ. كما سُدّ الطريق أيضاً على فعاليّاتٍ سياسيّةٍ صحراويّةٍ أخرى مؤمنةٍ بانتمائها للوطن ضمن إطار الجهويّة السياسيّة.
كل هذا زاد من تشكيك مواطنينا الصحراويين في مدى جديّة مقترح الدولة المغربية، خاصةً مع ما رافق هذا التدبير السيء من ممارساتٍ تقليديّةٍ قائمةٍ على استمالة الأعيان، وتوزيع الريع والامتيازات، بدل الاستفادة من التحوّلات التي شهدها النسيج الاجتماعي الصحراوي الذي انتقل في معظمه من مجتمع رعويّ قَبَليّ، إلى مجتمعٍ حضريّ لم تعد فيه التراتبيّة القبليّة محدِّدَةً للعلاقات الاجتماعية، والاعتماد على الشباب عبر إشراكهم في صياغة وتقريرالسياسات العموميّة الخاصة بجبهتهم.
وعندما أستحضر حادثة الكركرات التي عملت عبرها جبهة "البوليساريو" على إعادة احياء الملف بعد سباتٍ طويلٍ استمرّ لعقود، فرض المغرب من خلالها سيادته على الصحراء بشكلٍ سلسٍ، رغم بعض الاحتجاجات المحليّة التي تكون وراءها في الغالب أسبابٌ موضوعيّةٌ شأنها في ذلك شأن باقي الاحتجاجات التي تعمّ التراب الوطني، وذلك ضد التهميش والبطالة والفساد الذين يعمّون مؤسسات الدولة في تدبيرها لقضايا الشأن المحلي رغم محاولة استغلالها من طرف بعض عناصر الجبهة من أجل الترويج للأطروحة الانفصالية.
أجد أنّه من غير المستبعد أن تكون القيادات النّافذة في الجبهة قد طالها هي أيضاً الريع الدولي، ودخلت عن سبق إصرارٍ وترصّدٍ في خطوةٍ استفزازيّةٍ باحتلالها لهذه المنطقة الحدوديّة من دون أن تكون لها القدرة على الدفاع عمّا خططت له، بل عملت فقط من أجل تدشين الحلقة الأولى لمخطّطٍ أميركي إسرائيلي يتجاوز ما كان يُعتبر بالنسبة إليهم قضية "شعبٍ محتلّ" ليعانق استراتيجيةّ أميركيّة مندمجة ضمن مشروع "صفقة القرن".
أقول هذا، لأنّ سلسلة الأحداث المتسارعة التي أعقبت هذا الاستفزاز في معبر الكركرات والتي تزامنت مع قرب انتهاء ولاية دونالد ترامب، على رأس الإدارة الأميركية، بدءاً بتدخّل الجيش المغربي وما تلاه من حشدٍ للجبهة الداخلية المغربية من أجل خلق حالة إجماعٍ سياسيّةٍ ووطنيّةٍ جديدةٍ مؤيّدةٍ لتدخل الجيش المغربي، مروراً بتقاطر اعترافات ممالك الخليج بمغربية الصحراء وفتح قنصليّاتها في إقليم الصحراء، جعلني أكثر حرصاً في قراءة هذه المعطيات المتتالية.
إنّ هذه المعطيات تدفع بي كمتتبّعٍ موضوعيٍّ، إلى وضعها في سياقها الإقليمي والدولي، ليس لأنني ضد قضيةٍ اعتبرتها دوماً ثابتةً في مفهومي للوحدة الوطنية التي لا أراها من خارج مفهوم الدولة الديمقراطية المتعدّدة بجهاتها التاريخية في إطار ما يمكن أن نسمّيه بدولة الأوتونوميّات الجهويّة التي تُعدّ ضمانةً لتحصين الجبهة الداخلية وربح رهان الوحدة الوطنية. إنّ ما طرحه المغرب من حلٍّ لملف جهة الصحراء الغربية المتمثّل في مشروع الحكم الذاتي، يندرج شئنا أم أبَينا ضمن هذا المفهوم المتطوّر للوحدة الوطنية والترابية التي تُقرّ بالخصوصيّات الجهويّة، وتعتبرها ضروريةً لأي مشروعٍ تنمويٍّ وديمقراطيّ .
أردتُ أن تُستكملَ جميع حلقات هذه التطوّرات المتسارعة حتى يكونَ باستطاعتي صياغة بعض الأسئلة التي لا أمتلك أجوبةً عنها حالياً. لكن ربما القادم من الأيام سيجعل الإجابة عليها أكثر وضوحاً، ما دام سوق المزاد السياسي لم يعد يستثني حتى ما كان يُصنَّفُ ضمن إطار القضايا العادلة للدول والشعوب.
بالتالي، فإنّ ما سأطرحه من أسئلةٍ هو فقط من أجل تفكيك هذه المتلازمة التي رُبطت من خلالها الدولة والحكومة و"الوحدة الترابية" بعمليّة التطبيع مع "إسرائيل". وهل سيقف الأمر عند هذا الحدّ أم هي مقدّمةٌ للانخراط في التحالف الخليجي الإسرائيلي الموجّه ضد محور المقاومة؟
- فهل كنّا فعلاً بحاجةٍ لأن تعترف إمارات الخليج بمغربيّة الصحراء حتى نعزّز مشروعيّة موقفنا من قضيةٍ يعتبرها جلّ المغاربة قضيّةً وطنيّةً بامتياز؟ وما هو المقابل الذي تطلبه هذه الإمارات الخليجية الفاقدة للسيادة أصلاً؟
-هل يمكن اعتبار اعتراف أميركا-ترامب، بمغربيّة الصحراء عنصراً حاسماً في تطوّر الملفّ دوليّاً، مع العلم أنّ هناك من اعتبر هذا الموقف منافياً للقانون الدولي لاسيما في أوساط الدول الدائمة العضويّة في الأمم المتحدة، رغم الأهمية المعنويّة لهذا الاعتراف من دولة عظمى؟
-وهل سيكون لهذا الموقف استمراريةً في الإدارة الأميركية الجديدة التي التزمت بحفظ التوازن في علاقاتها الدولية؟ وبالتالي ستعمل هذه الإدارة على سحب ملف الصحراء من اللّجنة الرابعة للأمم المتحدة؟ وهل هذا ممكنٌ فعلاً؟.
ألا يمكن اعتبار قبول المغرب بوضع "القضية الوطنية" في بورصة المساومات السياسية سلوكاً سيعقّد الأمر أكثر، ويجعلنا عرضةً للمزيد من الابتزازات ؟
وإذا كنّا أصحاب حقٍّ نمارسه عمليّاً على الأرض بما نضخّه من إمكانيّاتٍ إقتصاديّةٍ وعسكريّةٍ في جهةٍ اعتبرناها جزءاً لا يتجزّأ من الوطن، فلماذا نضع أنفسنا في موقع الابتزاز المؤدّي لتطبيع العلاقات مع كيانٍ غاصبٍ لحقّ الشعب الفلسطيني؟
-بل حتى وإن اعتبرنا أنّ الدولة المغربية ارتأت الصّواب في موقف التطبيع مع "إسرائيل"، فلماذا كلّ هذه المقدّمات التي اتّضح أنّها كانت فقط تروم إلى التغطية والتمويه على موقفٍ كان جاهزاً سلفاً، بما اعتُبر نصراً دبلوماسياً وعسكرياً، وكأننا حرّرنا الصحراء للمرة الثانية؟! ولماذا التلاعب بالضمير الجَمَعيّ لعموم الشعب المغربي الذي وجد نفسه منشطراً بين موقفه المبدئي من وحدة أراضيه، وبين موقف التنصّل من قضيّةٍ لطالما اعتبرها قضيّةً وطنيّةً وإنسانيّة لما تمثّله من معاناةٍ لشعبٍ يرزح تحت وطأة الاحتلال ومعاناة مخيمات اللّجوء والشّتات؟
ألم تُضِعْ الدولة المغربيّة بموقفها هذا مشاعر الحماسة لدى الوطنيين والمثقفين المغاربة، بعد أن انساقوا وراء ما اعتُبرت فتوحاتٌ دبلوماسيّةٌ في موقع الاختيار بين التطبيع مع "إسرائيل" أو التخلّي عن الدفاع عن وحدة الوطن؟
وبالتالي، ألم يحن الوقت بعدْ للمثقفين وللإرادات الحرة أن تجهر القول بأنّ قوّةَ مشروعيّة قضيّتنا هي بقدر تضحياتنا؟ وأننا لن نقبل أبداً بأن تصبح خاضعةً لسوق النخاسة السياسيّة التي يكون ثمنها التطبيع مع كيانٍ غاصبٍ لحقوق شعبٍ آخرَ فلسطينياً كان أوغيره؟