هل يستطيع بايدن إيقاف التراجع الأميركي؟
بعد صمود سوريا في وجه الحرب التي شُنّت عليها، تحرّرت بعض الدول الكبيرة من تردّدها، وتقدّمت لِتقف إلى جانب دولٍ تصدّت لهذا المُخطّط.
لو قارنّا بين ما حدث في منطقتنا خلال العقد الأخير من الزمن، والذي سمّوه ربيعاً عربياً، وما حدث منذ 30 عاماً في أوروبا الشّرقية، لَوَجدنا أنّ عنوان "الربيع السوفياتي" هو العنوان الأنسب لتفكيك الاتحاد السوفياتي، وما تلاه من ثوراتٍ ملوّنةٍ حدثت في تلك المنطقة، وذلك تماشياً مع العناوين الأميركيّة المُضلِّلة، ولوجدنا أيضاً أنّ ما حصل منذ ثلاثة عقودٍ حتى الآن، ما هو إلّا عرباتٌ مُتّصلة لِقطار هذا الربيع، ولكان الأصحّ أن نسمّيه ربيعاً أميركيّاً-إسرائيليّاً.
مما لا شكّ فيه أنّ المُخطّط الأميركيّ سار بشكلٍ مُرضٍ للأميركيين وللإسرائيليين، ولِعدّة عقودٍ من الزّمن، أي منذ انضمام معظم جمهوريّات الاتحاد السوفياتي للاتحاد الأوروبي ولِحلف الناتو، ولاحقاً عند تدمير كلٍّ من العراق وسوريا وليبيا واليمن، ومحاولة جعل لبنان محميّة إسرائيليّة، وكان قد سبق ذلك تشجيع صدّام حسين على محاربة إيران، ومن ثم محاولة خنقها بالعقوبات، وتصويرها على أنّها العدو الوحيد للعرب، والخطر المُطبِق على دول الخليج، إلى غير ذلك من الأحداث التي نجحت في تحقيق بعض الأهداف، ولكنّها فشلت في تحقيق الهدف الأساسي المُتمثّل بولادة شرق أوسطٍ جديد، تكون فيه "إسرائيل" آمنةً ومُسيطرةً عليه.
لكن وبعد صمود سوريا في وجه الحرب التي شُنّت عليها، تحرّرت بعض الدول الكبيرة من تردّدها، وتقدّمت لِتقف إلى جانب دولٍ تصدّت لهذا المُخطّط، ونجحت بذلك إلى حدٍّ بعيدٍ.
انطلت الخديعة على بعض حكّام المنطقة، إذ أتى المُخطِّط الأميركيّ بالرئيس أوباما وركّز على أصوله الإسلاميّة، لغاياتٍ أضحت معروفة، ونجح بسياسته النّاعمة في بعض المفاصل، ولكنّ نجاحه كان محدوداً ومؤقتاً؛ لذلك جِيء بدونالد ترامب الذي سبقته سمعته بالحزم والتهوّر، فاستخدم حزمه وتهوّره في أكثر من مكان، سواء في قصف دمشق، أو اغتيال اللواء سليماني ورفاقه بحماية العربدة الإسرائيليّة في المنطقة.
كان الشّيء المُلفت في سلوك ترامب هو إهاناته الدائمة لِحلفائه، بمن فيهم الأوروبيين، وتعامله الفظّ معهم، والانسحاب الأحاديّ من الاتفاق النوويّ مع إيران، كذلك انسحابه من عدّة منظّماتٍ واتفاقيّاتٍ عالميّة، وغيرها من القرارات التي أفقدت العالم ثقته بأميركا، وجعلت دورها في تراجعٍ ملحوظٍ.
ولعلّ الشيء المُقلِق، هو ممارسات ترامب، التي تزداد تهوّراً مع اقتراب وصول بايدن إلى البيت الأبيض، فحتّى الآن، وبالرغم من القيود التي تمنعه من القيام بعملٍ عسكريٍّ يُفجّر المنطقة، نراه يحاول تفخيخ كلّ الملفات في درب إدارة الرئيس المنتخب، وقد أتى في هذا السياق استهداف العالِم النووي الإيراني محسن فخري زادة، الذي اغتيل لإجبار إيران على ردٍ مُباشرٍ يتناسب مع ما تمثّله شخصيةٌ بهذا الوزن، لكنّ الردّ الإيراني المبدئي جاء بزيادة نسبة تخصيب اليورانيوم، وتقييد حركة المُفتّشين الدوليين، ومن المُرجّح أنّ هذا الردّ رغم قوّته، ليس إلّا ردّاً أوليّاً، سيتبعه ردودٌ أخرى، ولكن حسب التوقيت الإيراني.
وبما أن تغيير الرؤساء الأميركيين هو تغيير سياساتٍ قبل أن يكون تغيير أشخاص، فما ذهاب ترامب ومجيء بايدن، إلّا ذهاب طريقةٍ بالتعامل مع العالم ومجيء أخرى، وقد تباينت المواقف الدوليّة بنتائج الانتخابات بين مُرحّبٍ وغير مرحّب.
ومن المُلاحظ أن روسيا تأتي في طليعة من يفضّلون بقاء ترامب، وذلك بسبب هامش الحركة الواسع الذي امتلكته روسيا جرّاء سوء إدارة ترامب، مما جعلها مُمسكةً بالكثير من الملفات، وحاضرةً بالكثير من الأماكن التي كانت حكراً على الأميركي.
كذلك تأتي كلٌّ من تركيا ودول الخليج في مصاف الدول الراغبة في بقاء ترامب، بحكم التنسيق العالي المستوى لهذه الدول مع إدارته قبل الانتخابات وخلالها، وقد أقلقتها تصريحات الرئيس القادم السلبيّة تجاهها، لاسيما اتّهامه لها بتمويل الإرهاب ودعمه، ما دفعها إلى التصالح فيهما بينها للتّصدي بشكلٍ مُشتركٍ للضّغوط القادمة.
ولعلّ الشخص الأكثر تضرراً هو رئيس الوزراء الصهيوني، الذي قد يكون ربط مصيره بمصير ترامب، في ظلّ تُهم فسادٍ تُلاحقه، ومعارضةٍ داخليّةٍ شديدة، وهذا ما يُفسّر إصراره على افتعال حدثاً يُفجّر المنطقة.
أما الغالبيّة العُظمى لِبقيّة الدول، فكلّ الدلائل تُشير إلى رغبتها في رحيل ترامب.
ويبقى محور المقاومة هو الوحيد الذي لا يهتمّ بذهاب رئيسٍ أميركيٍّ ومجيء آخر، لأنّه على قناعةٍ بأنّ جميع الرؤساء الأميركيين لا ينظرون إلى المنطقة إلا بِعيونٍ إسرائيليّةٍ، ولدى هذا المحور من القوّة ومن الحكمة ما تؤهلاّنه للتّعامل مع كافّة المتغيّرات.
بكلّ الأحوال، أحدٌ لا يستطيع تجاهل قوّة الولايات المتحدة وتأثيرها على مستوى العالم، ولا تجاهل مصالحها، وفي الوقت ذاته من الصّعب إنكار أو التقليل من أهمية التراجع الأميركي الواضح على مستوى المنطقة والعالم، وحتى على مستوى الداخل الأميركي، خاصّةً على الصّعيدين الاقتصادي والصحّي، ومن الصعب أن يتمكّن بايدن وقف هذا التراجع، ولعلّ أكثر ما يستطيع فعله هو إدارة هذا التراجع وإبطاؤه قدر الإمكان.