أميركا ترامب.. أميركا ما بعد ترامب؟
إنّ منطق الولايات الأميركية المتحدة الذي يُعرف بمنطق الحرب الاستباقيّة، مبنيٌّ على افتراضاتٍ مُسبقةٍ أيضاً، دفع بها إلى الصفوف المتأخّرة سياسيّاً.
أسئلةٌ كثيرةٌ تُطرح حول إعلان أميركا سحب قوّاتها من أفغانستان والشرق الأوسط، وهل ذلك ممكنٌ الآن أم إنّ الأمر مجرّد كلامٍ للاستهلاك الدّاخلي؟ وزير الدفاع الأميركي الجديد كريستوفر ميلر، يؤكّد عزمه تسريع سحب القوّات الأميركيّة من أفغانستان والشرق الأوسط "حان وقت العودة إلى الوطن"، لكنّ سياسة ترامب في الشّرق شكّلت له العقدة التي ستظلّ تلاحقه، إذ تُشير صحيفة "واشنطن بوست" إلى أنّ "إستراتيجيّة ترامب في الشّرق الأوسط تصل إلى طريقٍ كإرثيٍّ مسدود".
أمّا صراعه مع بقية العالم، فقد كان مجرّد صراعٍ مع الطواحين، أفقده أهمّ حلفائه، فقد تحدث المستشار الألماني الأسبق غيرهارد شرودر، عن مسار "المواجهة الشّديدة" للإدارة الأميركيّة الحاليّة تجاه الصين وقال: "نصيحتي للسياسيّين الألمان والأوروبيّين هي ألاّ يسمحوا لأنفسهم بالانجرار إلى هذا الصّراع''. وفي ملفّ إيران، تقول "واشنطن بوست" إنّ "عقوبات ترامب على إيران فشلت برغم قسوتها بل أجبرت حكّام إيران على استئناف تخصيب مخزونهم من اليورانيوم الذي قد يتجاوز حتى الآن 12 ضعف الحدّ الذي حدّده الإتفاق النووي العام".
يتفق أغلب المحلّلين السياسيّين وأصحاب الرأي من المخضرمين على أنّ السياسة السلبيّة الخارجية التي انتهجها ترامب لا يمكن محوها بسهولة، فقد اعتبرت مجلة "ذي أتلانتيك" الأميركيّة أنّه "على الرّغم من تهنئة معظم قادة العالم الغربي للرئيس الأميركي المنتخب جون بايدن وارتياحهم لفوزه والتخلّص من عهد الرئيس دونالد ترامب، إلاّ أنّ ما بعد عهد ترامب، يستحيل العودة بسرعةٍ إلى الوضع الطّبيعي الذي كانت عليه أميركا قبل أربع سنوات، سواء في علاقاتها مع أصدقائها أوأعدائها".
صحيحٌ أنّ ثمّة واقعاً جديداً استجدّ على جون بايدن، ولكنّه واقعٌ اختلطت فيه المفاهيم على الولايات المتحدة الأميركيّة طوال عهد ترامب وتناثرت الرؤية الواضحة تجاه ما يجري في العالم اليوم، فهي تارةً تتّجه إلى خيار الحرب ضد إيران، وطوراً إلى اللاّحرب، لتبقى حبيسة الرؤية الرمادية. تهدّد بأساطيلها في مناطقَ عدّة كلّ من يرفض سياستها، وفي مقدّمها إيران، عاجزةً عن تنفيذ تهديداتها، ليس حبّاً بإيران بل خوفاً منها، فهي متورّطةٌ بأخطاءٍ في أفغانستان، والعراق وأمامها أزمات عدّة تنتظرها.
صحيحٌ أنّ وزير الدّفاع الأميركي الجديد كريستوفر ميلر بالوكالة، عازمٌ تسريع سحب القوات الأميركية من أفغانستان والشرق الأوسط، لكن هذا الإعلان لا يخلو من استمراريّة مضاعفاتٌ أخرى: إلى أيّ حدٍّ يمكن لأميركا ترميم أخطائها؟ وعلى أيّ أسسٍ أو مبادئَ؟ طالما أن ترامب استسلم للواقع، واقع الخسارة في الانتخابات وواقع الإرث السياسي الذي آمن به، الحافل بالأخطاء والذي سيخلّف وراءه إنقساماتٍ رهيبة أحدثها في المجتمع الأميركي، يرى البعض أن الملياردير الجمهوري "لا يفعل سوى الإعداد لشنّ هجومٍ على المؤسسة الديموقراطيّة الأميركية".
ويرى آخرون أن الرئيس المُحبَط لترك منصبه، يُخرج من قبّعة "رجل الاستعراض" كلّ ما يمكن أن تسبّبه الفوضى من أجل إبقاء الأضواء مسلّطةً عليه مهما كان الثّمن. وفي هذا العصر، الذّهبي الذي تنتشر فيه نظريّة المؤامرة، لدى كلّ شخصٍ متّسعٌ من الوقت ليطرح نظريّته والأخطر من كل ذلك، ما قاله ألكسندر فيندمان، الضابط والمستشار التنفيذي السابق الذي طُرد من البيت الأبيض لأنه شهد ضد الرئيس أثناء إجراءات العزل، ومن بين إشارات الإنذار الأخرى التي تمّ الإستشهاد بها لدعم هذه النظريّة، الضوء الأخضر الذي منحه وزير العدل الأميركي بيل بار، لفتح تحقيقات في مخالفاتٍ محتملةٍ خلال الإنتخابات الرئاسية، وهو موقفٌ غير مسبوقٍ أدّى إلى استقالة ريتشارد بيلغر، المسؤول عن شؤون الإنتخابات في الوزارة.
إلى كل ذلك، تغرق أميركا اليوم في الدّيون المشكوك بإمكانيّة تسديدها، ومن الممكن أيضاً ألاّ يتمكّن أحفاد الأميركيين الذين هم على قيد الحياة أن يسددوا هذه الدّيون. يقول أحد المفكرين الأميركيين أنّ "النّفقات الأميركية بلغت اليوم أكثر من 900 مليار دولا"ر، في الوقت الذي تقلّ فيه قوّة الولايات المتحدة الإقتصادية بانكماشٍ يتجاوز الأزمة الماليّة لسنة 2009 وهو تقريباً نصف المبلغ الذي ينفقه العالم كلّه.
لقد كانت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية - أي عام 1947 - تملك جبالاً من الأموال، مقابل عجز العالم آنذاك حتى عن تسديد ديونه، واليوم هذا العالم بدأ يأخذ مكانتها والصين نموذجاً حيّاً، وما افتقاد أميركا للقوّة الاقتصاديّة النسبيّة إلاّ من باب اهتمامها بالحروب الخارجيّة، إذ أعطت للآلات العسكريّة القوة الأولى في سياستها، أملاً في تطبيق ما وُصفت به بأنّها الدولة الكونيّة، وهي بالتالي ترى أنّها تملك الحقّ في نقل جهدها العسكري إلى أكثر من 70 دولةً في العالم.
لقد حاول ترامب أن يوجّه الرأي العام إلى ما حقّقه في عهده من عملياتٍ للتطبيع بين "إسرائيل" و3 دولٍ عربيّةٍ. الواقع يشهد أنّه تحقيقٌ رديء لأنّه مرفوضٌ شعبيّاً بل ومن المؤكد أنّه وُلد ميتاً. أوضحت صحيفة "واشنطن بوست" في مقالٍ لها، أنّه "وبالرغم من توقيع اتفاق التطبيع بين إسرائيل و3 دول عربية في عهد ترامب، إلاّ أن سياسات الضغط الأقصى كانت في ملفات نزع سلاح كوريا الشمالية، وإجبار الصين على التّخلي عن المذهب التجاري، إضافةً إلى إستراتيجية ترامب الشّاملة تجاه إيران على مدى السنوات الأربعة الماضية، كلّ هذه الملفّات أدّت إلى طريقٍ مسدودٍ كارثيّ". وبالتالي، فإن ما يمكن اعتباره من حسنات ترامب أنه عرّى بسوء وعيٍ منه، النّظام الأميركي المبنيّ على العنصريّة واللاّ ديمقراطية والمناهض لحقوق الإنسان.
ومع كل هذا الفشل، تأمّلت إدارة ترامب في أن تسير الإدارة المقبلة على نهجها حيال ملف إيران، وأن تواصل بذلك حملة "الضّغوط القصوى" عليها، وفق ما نقلته وكالة "فرنس برس" عن مسؤولٍ أميركيٍّ رافق وزير الخارجية مايك بومبيو في جولته الإستعراضية الخارجيّة، الأخيرة. إنّ منطق الولايات الأميركية المتحدة الذي يُعرف بمنطق الحرب الاستباقيّة، مبنيٌّ على افتراضاتٍ مُسبقةٍ أيضاً، دفع بها إلى الصفوف المتأخّرة سياسيّاً، وهي اليوم مع رئاسة ترامب في عزلةٍ دوليّةٍ لم تعرفها من قبل، وما صعود الصّين اليوم، وعدم انجرافها في "سياسة الأمركة" إلاّ يقيناً منها بأهميّة دورها القادم، وهو وجودها في الصفوف الأولى، في عالمٍ متعدّد الأقطاب، وهي تعرف مسبقاً أيضاً أن الدور الأميركي في العالم في حالة انكماشٍ بسبب رعونة الرئيس ترامب، وأن المستقبل الواعد ينتظر آسيا.
أُفول الأفكار الانشطارية، في سياسة المحافظين الجدد، إن لم تكن آيلةً بالسقوط والتواري كتمثالٍ عصفت به الرياح الهوجاء، إلاّ أنها آتيةٌ لا محالة. لقد شهدت الولايات المتحدة في تاريخها انتخاباتٍ اختُتمت بنتائج أقرب من نسخة 2020، دون أن يُترجَم ذلك إلى أشكال المواجهة التي يشهدها العالم اليوم بذهول. لذا، ما الذي يحاول ترامب فعله؟ يقول مؤيدو نظريّة الانقلاب إنّ قطب الأعمال السابق نزع قناعه ويتبع الآن بلا خجلٍ استراتيجيّةً استبداديّةً تجاه ما لا يصبّ في مصلحة أميركا كدولةٍ يُشيّد فيها الإرهاب عشّه، في الدّاخل صراعاتٌ ضد العنصرية وفي سياستها الخارجيّة صراعٌ ضد العزلة الدوليّة ويبقى الرابح الأكبر في كل ذلك إيران، بمواقفها الثّابتة ورؤيتها الإستراتيجيّة العسكريّة، وستشكّل إيران قطباً مهمّاً في المنطقة.
لم تعد أميركا بعد الفوضى التي أحدثها ترامب، قادرةً على الادّعاء بحقوق الإنسان والديموقراطية. إنّ أخطر مهاجمي الديموقراطيّة الأميركيّة اليوم ليسوا الروس أو الصينيّين، بل هم قادة الحزب الجمهوري. ففي مواجهة الفوز الذي حقّقه الرئيس المنتخب جو بايدن - ليس فقط فوزاً بالهيئة الإنتخابية ولكن بهامش تصويتٍ شعبيٍّ يقارب 5 ملايين- يتصرّف الرئيس دونالد ترامب وكبار الجمهوريين مثل الطّفل المدلّل الذي يرفض التّخلي عن لعبته.