في توصيف وتشخيص الحالة الليبية!
رُصد مؤخراً تزايد ردود الأفعال السلبية في السلوك الشخصي في الشارع الليبي وانحيازه إلى نوعٍ من العدوانية والعنف.
تمرّ بعض القطاعات من المجتمع الليبي بفترةٍ عصيبة لاسيما في هذه المرحلة، نتيجةً للانكسار السياسي الراهن وغياب الرؤية الواضحة لمستقبلٍ واعدٍ وتزايد حدّة الخلافات بين طرفي الصراع دون التوصّل إلى تسويةٍ نهائيةٍ رغم إعلان وقف إطلاق النار، ناهيك من تداعيات جائحة كورونا اللعينة.
لهذه الاسباب مجتمعة، يمرّ المجتمع الليبي بفترة حرجة وغير مسبوقة من الاضطرابات والتوتر النفسي، الأمر الذي كان له مردوده الواضح والعميق في حالةٍ سائدةٍ الكآبة بدأت تغلّف بعض أوجه الحياة الفردية والاجتماعية والعلاقات الأُسرية التي اتّسمت بالعنف. وأصبحت هذه الظاهرة الاجتماعية ملفتة لدرجةٍ أنها أصبحت وتستوجب وقفةً جادةً من ذوي الاختصاص لدراستها وإيجاد توطئة للتعامل معها بكل جديةٍ وحزم.
رُصد مؤخراً تزايد ردود الأفعال السلبية في السلوك الشخصي في الشارع الليبي وانحيازه إلى نوعٍ من العدوانية والعنف. فهو يتّجه أحياناً إلى استخدام مفردات غير متّزنة في خلافات تافهة تقوم على أبسط الأمور. ثمّ تراجع دور الأسرة كوعاءٍ تربويٍّ حاضنٍ للقيم السائدة سابقاً والتي تقوم على الاحترام المتبادل. أصبحت هذه الظاهرة مخيفة لأنها بدأت تنتشر، لذا يجدر بنا التوقف عند خطورتها وانعكاساتها السلبية في تقويض مسار الوئام والسلام الاجتماعي.
لقد أخرج البعض منّا، خلال هذه السنوات الأخيرة العجاف، أسوأ ما عنده ففقدنا جانب التسامح والعِشرة الطيبة والتكافل والتماسك الأُسَري والتضامن خاصة في المحن. وبدأت، وبكلّ أسفٍ، تلوح ملامحُ لمجتمعٍ جديدٍ أخذ يتشكّل غريباً عن بيئتنا. لم نعد نفهمه إذ هو أقرب ما يكون إلى العنف في خياراته ورفض الآخر ومحاولة استلاب حقّه والنّيل منه في شخصه، فأصبح الغيبة من السلوك العادي لا المستهجن عند البعض، واستشرت النميمة والحسد والحقد وقطع أواصرالعلاقة الأسرية ومحاربة الناجح لكي يفشل وتحطيم الفاشل بدلاً من الأخذ بيده لكي ينجح. وساد بهذا الواقع المرير إحساس قوي بالاكتئاب والحزن بدلاً من السعادة والمحبة والتعاون والتآزر ومساعدة الاخرين.
لقد كانت للظروف الاقتصادية المتردّية انعكاساتها السلبيّة. فالجميع يشكو من صعوبة الحياة والعجز في كثير من الأحيان على تحقيق أبسط المتطلبات والحاجات الأساسية. تقع المعضلات في بلورة هذا المسار السيء على خلفيّة المسلك الإجتماعي والنفسي والإنساني الذي يعيشه بعض أفراد المجتمع والذي سجل تدهوراً لما طرأ عليه من مفهومٍ وتفسيرٍ جديدين لقيم الحرية التي تمّ شخصنتها وأُطلق عقالها بلا قيد، حتى أصبحت حرية الفرد مطلقة.
صار الفرد يُقدم على تصرفات رعناء بغض النظر عن آثاره السلبية على حرية الآخرين. وتكرّس هذه الحالة مفهوماً خاطئاً ومشوّهاً للحرية بما أفرزته من فوضى لا قيد لها في غياب سلطةٍ فعليّةٍ للأجهزة التنفيذية وغياب الضوابط الإجتماعية؛ فكثرت الممارسات الخاطئة المستهجنة من البعض دون وازعٍ من ضمير أو كابحٍ من سلطة ما.
في ظلّ هذه الفوضى، بات فهمنا لبَعضِنَا الآخر خاطئاً، وفي خضم معركة التفريق بين الحرية كجوهرٍ وحرية الإرتهان للخارج، فقد أسأنا إلى وطننا بما هو أكثر من المتوقع، ولم نحفظ له في شططنا هذا قيمةً ولا كرامةً على الاطلاق.
إن سمة الرفض والبؤس والتبرّم أحيانا بدون سببٍ والغضب السريع لأول وهلةٍ واستخدام السلاح والاحتكام إليه، هو أسلوبٌ انتهجه البعض لحلّ الخلافات بعيداً عن نهج الحوار. تبرز هنا الرغبة في الاستحواذ على ما يمتلكه الآخرون ونعتهم بأقبح الألفاظ والتشكيك في ذممهم الماليّة بسببٍ أو من غير سبب لمجرد العداوة أو الحقد الشخصي.
إنها سماتٌ بدأت تنتشر فبتنا نلمسها، بل نعاني منها في علاقاتنا اليومية. لم تعد رحابة الصدر وتقبّل الآخر والروح المرحة المتفتحة قائمة وسائدة عند البعض بفعل تلك العوامل المذكورة. يجب أن نتنبّه إلى هذا الأمر الخطير، لأنه ماضىٍ بسرعة نحو وادٍ عميقٍ لا قرار له، ولن تكون انعكاساته على الوضع الأسري فحسب بل على تشكيل الحياة الاجتماعية بأسرها مما سيُنتج مجتمعاً سلبياً ناقماً على معيشته، ليس بالإمكان أن نتوقع أو نتنبأ أي ردود فعل طبيعية له في مسلكه وتصرفاته!
كل هذه المسائل التي تصب في خانة السلبية، ستكون لها انعكاساتها المدمرة إن لم تكن قد بدأت فعلاً، على طبيعة ودرجة انتماء المواطن الليبي إلى بلاده. إنّ إضعاف هذه الحلقة الهامة يؤدي إلى انحدار المجتمعات. لذا، يجدر تقوية هذه المجتمعات والدعوة إلى توحيد أفرادها في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية من أجل إحراز التقدم ورفعة الأوطان. إن أخطر الاشياء هو الفشل في خلق أفراد منتمين إلى مجتمعاتهم ونشوء بدلاً من ذلك أفراداً سلبيين تجاه ما يحدث، لا يعنيهم أمرٌ وليس لهم دوراً بتاتاً فيما يتم تخطيطه وتنفيذه من سياسات للبلاد على جميع الأصعدة الداخلية والخارجية
لن نغفل الحديث هنا عن الانحرافات الأخرى التي يمارسها البعض نتيجةً لانتشار بعض العقاقير المتلِفة للعقل وتعاطيها بشكل ينذر بكارثةٍ بين صفوف الشباب على وجه الخصوص، نتيجةً لما لهذه النحرافات من آثار مدمرة على الصحة النفسية والعقلية وتوازن الجسد والروح وعلى درجة الانتماء للوطن وقيم العمل والعطاء والإبداع.
إننا أمام مجتمعٍ غارقٍ في غفلةٍ منا في التفكك التدريجي بفعل تلك الأسباب وبفعل تلك الضبابية في الرؤية وعدم اليقين في تطلّعه إلى غدٍ أفضلَ وتيسير أمور حياته وتحسين مسار اقتصاده. تتضاعف هذه الضبابية بتزايد أطراف الصراع في خلافهم واقتتالهم وابتعادهم عن صنع سلامٍ حقيقيٍّ يمكن من خلاله إعداد الأرضيّة السليمة لاسترجاع ما يمكن استرجاعه من الوئام الاجتماعي الذي فقدناه وفقدنا معه راحة البال والاستقرار النفسي واليقين في أن القادم سيكون بلا ريب أفضل!
نحتاج بإلحاحٍ إلى إعادة تأهيلٍ ذاتيٍّ للبعض، من شأنه بناء إنسانٍ جديدٍ ينتمي إلى قضايا بلاده، يخرج من قوقعة (الأنا) إلى دائرة الجميع الرحبة، يمكن الاعتماد عليه حقاً في عملية إعادة الإعمار والبناء وتطوير البلاد. إننا في أمسّ الحاجة إذا أردنا تجاوز هذه المِحنة العصيبة في حياتنا البائسة الفارغة من أي هدف، إلى مواجهةٍ حقيقيةٍ تبدأ بالمكاشفة ونقد الذات لكل هذه العواطف والسلوك السلبية نتيجةً لما يعانيه الكثير منا من ضغوطٍ نفسيّةٍ وإحساسٍ بالمهانة والارتباك في اتخاذ أي قرارٍ والقهر والإحباط والوحدة والعجزعن تحقيق الأساسيات لعوائلنا وعدم الثقة بالنفس.
وعلى من يملكون القرار، إذا أرادوا خيراً بالناس وبالبلاد، دعوةٌ إلى العمل سريعاً. وبعد أن نتجاوز جميعاً وباء كورونا بإذنه تعالى، سنصل إلى كلمةٍ سواء، تقوم على إعادة:
- الانفكاك من سلطة الخارج المتعفن، واجتثاث الحزبيات المرتهنة للخارج والتخلّص من أجسامها النائمة بيننا لتزرع الفتن وتسبّب الهوالك.
-الإحساس بالأمان بعيداً عن أي تهديدٍ قائمٍ أو قادمٍ يمسّ بحياة الناس اليومية.
- العمل على إعلاء قيمة الإحساس بالحياة كشيءٍ مقدّسٍ، هبة الله في إطار مجتمعٍ صحيٍّ تضامنيٍّ سلميّ يسعى إلى البناء والإعمار وليس إلى الدمار.
- احترام المواطن والإعلاء من قيمته العقلية وحقّه في حياةٍ كريمة وإشراكه فعلياً وليس صورياً في صنع القرار خاصةً في المسائل التي تمسّه مباشرةً في حياته اليومية.
- ضرورة إعادة ترسيخ المواطنة بمفهومها الحقيقي والصحي السليم بعيداً عن العوار الذي أصابها من جراء بعض الممارسات الحزبية و الجهوية والفئوية والقبلية والعرقية والتي يجب رفضها تماماً كمعيارٍ نحتكم إليه عند خياراتنا الوظيفية وفِي توزيع المناصب وفِي تحقيق أبسط مبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية.
- التصدي بقوة ضد الفساد ومحاولات الإفساد والتلاعب بثروة المجتمع من طرف بعض الأفاقين والحداق، ومن ثم التوزيع العادل لها فالثروة والتنمية للجميع.
- الاهتمام بقطاع الشباب وفتح أبواب العمل لهم والتوسع في إقامة المراكز الثقافية والرياضية.
- استرداد الدولة لقبضتها وهيبتها واحتكارها للقوة والسلاح وفرض القانون على الجميع دون محاباة أو استثناء.
إن لم يحصل ذلك، فإننا لن نخلق مجتمعاً سوياً متّحداً على الإطلاق إنما نخلق مجتمعاً منقسماً متشتّتاً لا قوة فعليّة له في ساحتيه الإقليمية والدولية ولا تحكمه ضوابط ملزِمة ومحترمة من الجميع ولن يكون له قدرة على المدى القريب أو البعيد في ظلّ هذا الاحتقان الداخلي من أجل الحفاظ على وحدة البلاد وسلامتها الترابية وأمنها الوطني ضد التحديات والأطماع الخارجية. ونكون بهذا وفي إطار تلك الانتماءات الضيّقة التي يحرك بعضُها المشهد السياسي حالياً، قد جنينا على البلاد والعباد إلى الأبد.