الانتخابات الأميركيّة عمليّة ديمقراطيّة أم لعبة إعلاميّة؟
في بعض العروض المسرحية، قد يخرج الجمهور وهو يلعن إعلاماً ناجحاً، أغراه لِيحضر عرضاً فاشلاً، ومن الطبيعي أن يقرّر الجمهور التروّي قبل حضور عروضٍ قادمة، أما مع جمهور الانتخابات الأميركيّة فالحالة مختلفةٌ تماماً، لأن هذا الإعلام الناجح يمنعه من اكتشاف رداءة ا
نعم إنّه الإعلام صاحب اليد الطولى التي اعتمدها القادة الأميركيين، ومن يقف في العمق خلفهم لإدارة صراعاتهم الداخلية والخارجية.
ولمن يقول أنّنا نبالغ، نُحيله إلى قول الصحافية المشهورة هيلين توماس، وهي التي عاصرت أهمّ الرؤساء الأميركيين، ورافقتهم وغطّت أنشطتهم، حيث تقول" إنّه الإعلام ولا شيء غيره، وأنّ المواطن الذي ينتخب هو جزءٌ من كيانٍ يحكم الكون، بينما قد يكون في الواقع أحمقاً وغبياً تخدعه الصورة الإعلامية، وإنّ 70% من الأميركيين ثقافتهم تلفزيونية".
ما يدفعنا إلى الحديث عن الإعلام الأميركي هو الانتخابات الرئاسية التي جرت منذ أيام، والتي استطاع خلالها الطرفان المتنافسان على الرئاسة، ومن خلال الإعلام أن يحشدا أكثر من 145 مليون ناخب، أي بزيادة حوالي 7 مليون ناخب عن انتخابات عام 2016، مع أنّ الأحوال المعيشية والصحيّة بين الفترتين مختلفة لصالح الانتخابات السابقة.
أثناء تواجد دونالد ترامب في موقع الرئاسة، كان صراعه واضحاً مع ما يُسمّى الدولة العميقة، وذلك من خلال صراعه مع أدواتها الإعلاميّة، وخاصّة مع شبكة CNN الإخبارية وصحيفة واشنطن بوست، اللّتين تُعتبران من أقوى الأذرع الإعلاميّة الأميركيّة، ولذلك لجأ في إعلامه إلى وسائل إعلاميّةٍ بديلةٍ، أهمّها موقع تويتر لترويج سياساته، ويُحسب له نجاحه في ذلك إلى حدٍّ بعيدٍ، بدليل أنّه استطاع حشد أكثر من 71 مليون ناخب صوّتوا لصالحه، رغم كثرة وسائل الإعلام وفاعليّتها التي كانت تعمل لصالح الطرف الآخر.
من المعروف أنّ ما تُسمّى الدولة العميقة هي من تتحكم بشكلٍ كبيرٍ بالملفات السياسيّة المهمّة، مع ترك هامشٍ للرئيس يضيق أو يتّسع حسب الملف، وبالتأكيد إن دور هذه الدولة قويٌ جداً في وصول أيّ شخصٍ إلى موقع الرئاسة، أو إقصائه منه بطريقةٍ أو بأخرى إذا سار بعكس رغباتها، والأمثلة كثيرةٌ، فالرئيس جون كيندي قُتل عام 1963 بسبب توقيعه معاهدة الحدّ من التسلّح مع الإتحاد السوفياتي. وبالرغم من التعتيم على الطرف القاتل، فإن أصابع الاتهام تُشير إلى شركات السلاح التي تُعتبر من الأطراف الفاعلة في الدول المتجذّرة، والدليل هو تعيين ليندون جونسون - الذي كان نائباً لكيندي - لِيدعم حربين خلال حكمه، هما الحرب الأميركيّة على فيتنام عام 1963، والحرب الإسرائيليّة على بعض الدول العربيّة عام 1967. وعلى النحو ذاته، أُقصيَ الرئيس بيل كلينتون بِفضيحةٍ أخلاقيّةٍ، لأن سياسته تجاه الشرق الأوسط كانت تميل إلى الحلول السلمية.
قد يكون خطأ أطراف الدولة المتجذّرة كبيراً، عندما قبلوا بوصول شخصيةٍ حادةٍ ومتهورةٍ يصعب السيطرة عليها لاحقاً مثل شخصية ترامب، ولكن ربّما كان مُبررهم هو حاجتهم إلى شخصيةٍ مماثلة، لتستطيع تحقيق أمرين مُهمّين لم يستطع سلفه باراك أوباما تحقيقهما، أولّهما هو إشغال محور المقاومة بتمرير ما يُسمّى "صفقة القرن"، والثاني هو دعم بعض الأطراف وتحريضها في المنطقة مثل السعودية و"إسرائيل "، للقيام بأعمالٍ تخريبيةٍ وربّما عسكريةٍ ضد إيران، ولكن ترامب أخفق في ذلك، ولذا أصبح لِزاماً تغيير الخطّة من خلال محاولتهم الفاشلة في عزله، لِتصل الأمور إلى الانتخابات.
بعد محاولة عزل ترامب بدأ تخبّطه، وكَثُرت أخطاؤه التي تلقّفها خصوم الولايات المتّحدة على طبقٍ من ذهب، ولعلّ الخدمة الأهمّ التي قدّمها لهؤلاء، هي أنّه وبشخصيته الإنفعاليّة والعنجهيّة استطاع التمرّد على آراء كانت تُخالفه في الرؤية وفي المنهج، مما أدّى إلى تعرية الولايات المتحدة الأميركيّة على أكثر من صعيد.
فعلى الصعيد العالمي، قام بسحب الولايات المتحدة من معظم المنظمات العالميّة وبعض أهم الاتفاقيات، فأظهر أنّ أيّ رئيسٍ أميركيٍّ مُستعدٌ للانسحاب من أيّة منظمةٍ لا تسير كما يريد، أو أيّة اتفاقيّة لا تروق له، وبذلك يتحتّم على بقيّة الدول أن تعود للتفاوض على الاتفاقيات الموقّعة مع تغيير كلّ رئيس، كذلك وبِعكس طريقة من سبقه من الرؤساء، مع أنّ الهدف ذاته للجميع، ولكن طريقته الخشنة والعلنيّة في ابتزاز أصدقاء الولايات المتحدة وحلفائها، لاسيما ابتزازه الصَلِف والعلني للسعودية، أفقد ثقة معظم دول العالم بالتحالف مع الأميركيّ، كما أنّ الحروب التجاريّة مع الأوروبيين جعلت هذه الدول تكتشف حقيقة السياسات الأميركيّة، وبالتالي رأينا ابتعاد معظم الدول الأوروبيّة عن الولايات المتحدة واقترابها من روسيا والصين، أمّا الأهم فهو ما حدث في الداخل الأميركي حيث كشف القناع عمّا يختزنه هذا المجتمع من عنصريّةٍ وكراهيّةٍ وانقسام.
وهنا، لا بدّ من الاعتراف أنّ الولايات المتّحدة قوّةٌ عظمى، ولكن هذه القوّة بدأت تتراجع، ومُخطئٌ من يعتقد أنّ التراجع يتوقف عندما يذهب رئيسٌ جمهوريٌّ ويأتي رئيسٌ ديمقراطيٌّ، فتراجع المكانة العالميّة للولايات المتحدة له أسبابه التي يأتي في مُقدّمها أداء بعض القادة، وهذا ما شجّع المحور الآخر الذي تقوده كلٌّ من روسيا والصين لأن يختصر الزمن ويتقدّم خطواتٍ كانت مؤجلةً، مُرتكزاً في انطلاقته القويّة على صمود دولٍ نجحت في مقاومة الهيمنة الأميركيّة، مثل كوبا وفنزويلا وإيران وسوريا وغيرها من الدول.
خِتاماً، قد يكون أصبح لِزاماً على العقلاء من الساسة الأميركيين، أن يقتنعوا ويُقنِعوا جمهورهم، بأنّ زمن القطب الواحد وزمن فرض إراداتهم على الآخرين قد انتهى، وأنّ عليهم برمجة تفكيرهم وخططهم، والتعامل مع الواقع على هذا الأساس.