أتفعلها سِرت و تعود بليبيا إلى الواجهة الدولية؟
تطلّ مدينة سِرت على الخليج المتفرّع من البحر الأبيض المتوسط الذي عُرف باسمها، خليج سِرت المعروف باسم "خليج السدرة".
سِرت مدينةٌ ليبية ساحلية تطل على البحر الأبيض المتوسط. تقع في منتصف الساحل الليبي بين طرابلس وبنغازي. تبعد عن العاصمة طرابلس 450 كلم شرقاً. تجمع في مناخها بين الاعتدال البحري والطقس الصحراوي. يبلغ تعداد سكانها حوالي 80,000 نسمة.
تطلّ مدينة سِرت على الخليج المتفرّع من البحر الأبيض المتوسط الذي عُرف باسمها، خليج سِرت المعروف باسم "خليج السدرة" والذي شهد إبان الحرب الباردة مواجهات بين ليبيا وأميركا فأُطلق على المدينة إبان فترة حكم معمر القذافي اسم "الرِباط الأمامي" إثر هذه المواجهات. وسُمّيَ خليج سِرت آنذاك للسبب ذاته وعُرف بـ"خليج التحدي"، وتُعدّ مدينة سِرت من المدن المهمة قديماً.
فهي على مدى التاريخ كانت نقطة تلاقي الليبيين. لقد كانت المركز الذي تلتقي فيه القوافل التجارية القادمة من غرب البلاد بالقوافل التجارية القادمة من شرقها. علاوةً على ذلك، فهي تشكّل مكان توافق القبائل الليبية، فكلما كان يحدث نزاع بين قبيلتين ليبيّتين, يأتي الجميع إلى سِرت لحل نزاعاتهم. فباتت سِرت حظوةً تاريخية عند الليبيين لأنها عنوان الجهاد و النضال و التحدي.
في فترة الاحتلال الإيطالي لليبيا، برز اسم سِرت في العالم حيث شهدت أكبر معركة تاريخية في تاريخ ليبيا المعاصر ضد المحتل الإيطالي وهي معركة القرضابية (29 نيسان/أبريل 1915). فقد كانت معركة فاصلة في الجهاد الليبي ضد الطليان، فهي تُعرف بمعركة الوحدة الوطنية التي جمعت كل القبائل الليبية في معركة واحدة ضد الاحتلال الايطالي حيث شارك فيها جميع أبناء ليبيا بقيادة صالح الأطيوش وحمد بن سيف النصر، وانتهت هذه المعركة بانتصارٍ كاسحٍ للمجاهدين الليبيين، إذ تمّ فيها القضاء على 13500 جندي إيطالي. شكّلت هذه الواقعة بدايةً لاندحار الإيطاليين، فعقب هذه المعركة سقطت أغلب الحاميات الإيطالية الواحدة تلو الأخرى، وبحلول منتصف آب/ أغسطس من العام ذاته، لم يبقَ بيد الإيطاليين سوى مدينتي طرابلس والخمس.
على صعيد آخر، برز اسم سِرت دولياً، لاسيما بعد طرد قواعد الإحتلال الايطالي البريطاني الأميركي إبان حكم معمر القذافي. وشهدت أجواؤها معركةً جوية ضارية بين سلاح الجو الليبي و سلاح الجو الأميركي بعدما قام الأخير بالإغارة على مدينتَي طرابلس و بنغازي فجاءه الردّ الحاسم من فوق خليج سرت.
ناهيك من أنها فرضت نفسها سياسياَ على العالم بأسره، فكانت العاصمة السياسية للدولة الليبية في فترة القذافي، عُقِدت فيها القمم العربية والأفريقية والدولية إلى أن جاءت أمواج التغيير التي عصفت بليبيا و المنطقة العربية.
في تلك الفترة تدخّل حلف الناتو - بدأ يقصف كل مؤسسات الدولة – فبرز اسم سِرت عسكرياً بعدما لجأ إليها معمر القذافي. ثم غابت عن المشهد بعد مقتل القذافي حتى إعلان تنظيم "داعش" الإرهابي عن وجوده فيها وحوّلها إلى إمارة تابعة له في 2015. سيطر تنظيم داعش على كافة المؤسسات الحكومية والمدنية فيها، انتقاماً من تاريخها العصيّ على المستعمرين منذ القدم.
لكن ولحظوة هذه المدينة عند الليبيين، تحرّك لتحريرها خيرة شباب ليبيا، بإطلاق عملية "البنيان المرصوص" ( 05/05/2016 )، حيث كان لشباب مدينة مصراته الدور الأكبر في هذه العملية التي حرّرت سِرت من تنظيم "داعش".
بعدها، غابت سِرت عن العالم لفترة من الزمن، إلى أن ظهرت بوادر الرغبة في الاستحواذ على الموانئ النفطية في البلاد. فبرزت سِرت كنقطة مركزية وفاصلة بين الشرق و الغرب، فهي تقع في منطقة وسط ليبيا، وتُعتبر المدينة الأهم في هذه المنطقة، إذ يمكن لمن يسيطر عليها التحرك نحو شرقي ليبيا أو غربها، إضافةً أن قرب المدينة الجغرافي من موانئ النفط الرئيسية الثلاث في ليبيا، وهي (البريقة ورأس لانوف و السدرة)، وقربها كذلك من عدد من حقول النفط، ومنابعه خصوصاً تلك الواقعة جنوب شرق المدينة، جعل منها منقطة استراتيجية مهمة وخطيرة.
استمرت المدينة في تصدّر مسرح الأحداث وعناوين الأخبار بعدما رفضت قوات حفتر الانسحاب منها واعتبارها خطاً أحمر أمام أي تقدم لقوات حكومة "الوفاق".
تطوّرت الأمور أكثر فأكثر باصطفاف مصر ودول عربية أخرى وراء حفتر وتصميم تركيا وقطر وإيطاليا على سيطرة "الوفاق" على سِرت. فتكثّفت المشاورات الدولية لإبعاد خيار الحرب وأُعلنت سِرت منطقة منزوعة السلاح ذكّرتنا بالمنطقة الخضراء في العراق. شمل القرار سِرت والجفرة – أي المنطقة الوسطى لليبيا - كما جهدت الدبلوماسية الأميركية للترويج لهذه الخطة سواء لدى الأطراف المحلية أو الدولية ذات العلاقة، آخرها أن تكون سِرت عاصمة مؤقتة للدولة الليبية في إطار حلٍّ يقتضي إنشاء منطقة منزوعة السلاح تحتضن الحكومة والمؤسسات السيادية بعد توحيدها، علماً بأن ملف النفط في طريقه إلى التسوية، إضافةً إلى توحيد المصرف المركزي ومؤسسته العسكرية والأمنية.
وهكذا، تتحوّل مدينة سرت من نقطة مواجهة وانقسام في ليبيا إلى مدينة التوحيد ولمّ شمل كل الليبيين. والجدير بالملاحظة بأن سِرت ستكون وفق هذا المقترح، ضمن منطقة منزوعة السلاح من أجدابيا شرقاً إلى حدود مصراته غرباً.
سِرت اليوم هي حمامة السلام التي تجوب كل أرجاء الوطن، سِرت اليوم هي غصن الزيتون الذي يستريح عليه الشعب الليبي بعد سنوات من القتل والحرب والتهجير والارهاب والانقسام، ها هي سُرَّة ليبيا تفرد يديها لتجمع شتات الوطن من الشرق إلى الغرب إلى الجنوب.
انتقلت سِرت من القرضابية، من خليج التحدي، من محطمة جبروت وأغلال إرهاب "داعش "لتكون عاصمة السلام لكل الليبيين بعد سنين عجاف. أتفعلها سِرت و تعود بالوطن إلى الواجهة الدولية؟