رؤية ورأي؟
مع الأسف، نتظاهر بالإنبات صوب المستقبل، ونحن نمارس العجز بأسوأ ما يمكن القول فيه، والأمم لا تنهض إلا بقراءتها الواعية لماضيها ومستقبلها.
إنّنا ضدّ منطق السّهو بكلّ تأكيد، سواء في الفكر أو الثقافة، لأنَّ منطق السهو في لحظات الوعي يكون أكثر تقبّلاً من الإدراك. لذلك، إنَّ العودة إلى الماضي والانطلاق منه صوب المستقبل بقصد بناء واقع مرتبط بمفهوم الذات هي عودة - من دون شكّ - واعية وبناءة، وكل ذلك يضع الأحداث ضمن سياقها، والأفكار ضمن إطارها المعرفي.
لقد آن الأوان كي نأخذ منطق الأحداث ومتغيراتها بجدّية، ونحاول قدر الإمكان بناء عالم فكري عروبي سياسي جديد، يأخذ من الماضي قاعدة الانطلاق، ومن تراثنا الحضاري مصادر الوعي والفهم، وفق منهج يجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين منطق العصر بمنظوره الجديد ومنطق المحطات التاريخيّة التي صنعت أهمّ مواقفنا الفكرية والسياسية والوجدانية، وبين المنظور المستقبليّ للحياة والأوعية التي يصبّ فيها، بعيداً من منطق الاحتمالات الجاهزة أو الاستناد إلى قوى خارجيّة.
لم يكن تراثنا الفكريّ، ومن خلال القراءة الواعية له، مجرد فكر ماضوي مذهبي، بل هو بالتأكيد خارطة موسّعة للفكر الواعد، يطوف فيها الباحث والقارئ، فيرى أفقاً متنوّع الأبعاد والرؤى، مضبوطة كلّها بضوابط الفكر الحامل لهموم الأمة ووجدانها، وليس لحاكم مهووس أو ملك لا يهمه سوى عرشه. لذلك، يمكن القول إنَّ ما يجمع هذا التراث من آراء وأفكار يمكن رصدها بسهولة ووضعها ضمن الفكر البشريّ القابل للتجدّد، ولا يحس بهذا الوهج إلا من كان يحسن قراءة التاريخ والواقع ضمن شروط التّجديد.
إنَّ مفهوم التّجديد ذاته يأخذ طابع الازدواجيّة، باعتبار الثابت والمتحرك فيه، وهما من وجهة نظرتي القوة الباعثة على النهوض والاستدراك، وخصوصاً أن الأمة من المحيط إلى الخليج أصابها الشلل، وذهب الجهل ببعضها بعيداً، ولا يشك أحد منا في التخلّف الحضاري الّذي نحن عليه الآن.
صحيح أنَّ الشّعوب العربيّة هُمِّشت واستعبدت في بعض الدول، كدويلات الخليج، ولكن ذلك لا يمكن أن يأخذ منحى الدوام، والطريق رغم ذلك ما زال يحمل منعرجات عدة لدى أنظمة الحكم السلالي، إذ يبدو كل شيء فيها ضرباً من المغامرة الخاسرة، غير أن الظروف الجديدة المتاحة لنا لا تبدو خاضعة لهذا المنطق، فالمثقف، أياً كانت رؤيته، لا يؤمن بتحقيق الهدف وتوطينه في القلوب والعقول إلا من خلال تحويل المغامرة إلى حركة إيجابية، بقصد تخطّي تلك المنعرجات وكلّ التحديات ما دامت المبادئ التي تنهض بها الأمة - ثقافة وحضارة -متوفرة، ولها خيط ممتدّ في الوجدان الشعبي والضمير الوطني .
لسنا - كأمّة وتاريخ - مجرّدين من الماضي بما فيه من تراكمات، وبالتالي فإنّنا لا ننطلق من الفراغ، فهناك رصيد ثقافي وكمّ تاريخيّ وسياقات معرفيّة لها كلّها في الواقع ما يعطيها قوة التأصيل وقوة الانفجار، إذا أحسنّا بالطبع التعامل معها وفق منظور العلم ومنظور الثقافة وبرؤى متجدّدة.. فابن باديس، على سبيل المثال، وهو أحد أقطاب الثورة الفكريَّة، وصاحب مدرسة سياسية اختلفت مع المدارس التقليديّة التي لازمت عصره أو سبقته، أقام بدائل جديدة لمفهوم التغيير ومفهوم البناء وإعادة البناء في تعبير غورباتشوف. والتغيير عادةً لا يتمّ إلا إذا أخذ طابع الارتباط بالواقع والارتفاع به صوب معادلة ثنائية تأخذ مفهوم الحداثة في المتغيرات ومفهوم الثابت، باعتباره قائماً مقام الشاهد التاريخي.
هذه الرواية لها أيضاً ما يؤيدها من الفكر الآخر، وأظن - وليس كل الظن إثماً - أنَّ كلّ الحركات السياسية والفكرية والأدبية المرتبطة بوعي الأمة وضميرها على مساحة الوطن العربي تأخذ بهذا الاتجاه وتؤصّل له. إن محاربة الأمية الثقافية والسياسية والعودة إلى عهد عبد الناصر وبومدين وإميل لحود لاحقاً، هي أحد الخيارات المطروحة أمامنا، وإن البعض يحاول الخروج بتحقيق القدر الممكن من الوعي بقصد ترميمها، ولسنا بالضرورة ممن ينظرون إلى الأعلى أو ينظرون له من غير ملامسة الواقع، فعلماء الاجتماع يؤكدون أن البداية تبدأ من الأسهل إلى الأصعب، ونحن نؤمن بأنّ وصول القافلة إلى مرساها الحقيقي خارج أوهام التطبيع والمجازفة بمصير الشعوب ليس مستحيلاً إذا حاولنا الانتقال من السهو الذي نحن فيه إلى الوعي المنشود.
إنّ الاعتماد على ما هو ممكن ومتاح مع الأخذ بوسائل الإدراك والنظر في الأحداث وفق سياقاتها التاريخية يجعل من اللاشيء الشيء الكثير، ذلك أن لا أحد بإمكانه القول إن الفراغ يصنع الحدث أو يكون عتبة للبناء، فالفكر بكل مستوياته مثل الجغرافيا لا يقبل الفراغ.
نعم، هناك أحداث فاشلة وأحداث إيجابية، وعلينا أن نأخذ بقوة الفعل في أي منهما، بقصد التماس الإضافات التي أضافتها الحضارة والثقافة والسلوك الذي صاحبهما عند غيرنا. وإذا أخذنا بهذا المنهج، فإننا نكون قد خطونا خطوة مهمة نحو فهم واقعي لمدى قدرتنا على تفكيك واقعنا بكلّ أبعاده، وإعادة رسمه لصالحنا، لا لصالح أميركا و"إسرائيل".
إن الأحداث المتلاحقة، إن لم نعشها بالكامل، فإنها متكاملة ولها بدايتها، والمسألة، من وجهة نظرنا، هي أن تمتدّ روح المعرفة التي بثّها المصلح والمفكر ابن باديس إلى المستقبل، وأن يكون هذا الامتداد امتداداً معرفياً متجدداً قابلاً للتجذير، لا فلكلورياً، كما نراه ونعيشه اليوم، بل هو امتداد شامل يلامس - وبقوة - كلّ طرائق المعرفة ومكوناتها، سواء في مجالات التكوين أو في مراكز البحث أو مصادر القرار.
ولهذا، يمكننا القول إنَّنا أمة تحترم رموزها التاريخية وتتولاها بضمائرها حباً أصيلاً. وخارج هذا المنطق، يمكننا القول مسبقاً إننا نخادع أنفسنا بأخذ الحدث من ظاهره وعدم الإقرار بمحتواه.. وبأن نؤمن بالماضي، ولا نجعله طريقاً للمستقبل، وهو من أهم الأخطاء التي تقع فيها أغلب الأنظمة العربية اليوم.
إنّنا، مع الأسف، نتظاهر بالإنبات صوب المستقبل، ونحن نمارس العجز بأسوأ ما يمكن القول فيه، والأمم لا تنهض إلا بقراءتها الواعية لماضيها ومستقبلها. المهم أننا أمام مشهد سيئ مع دخول دول التطبيع من بابه الواسع... وبالتالي، يجب أن نستوعب الأفكار التي صنعته، ونتوخى الأسوة فيها قدر الإمكان، والتوجه بالأفضل فيها صوب المستقبل، أملاً في عالم أفضل ثقافة وسياسية، وعلينا جميعاً أمانة التبليغ والتعريف والتبصير بالمبادئ التي تصنع الأمة وتمهّد لها الطريق صوب الاستنهاض بها.. إن التاريخ يسير ببطء، كما يقول نهرو، ولكنه يسجّل.