التطبيع .. مصير حمّال أوجه
تتصاعد في الفترة الأخيرة وتيرة الجدل الدائر حول التطبيع العربي مع الكيان الغاصب؛ جدل يحاول التلاعب بالعقول، من خلال ترسيخ فكرة صنع السلام "الوهمي والموهوم قطعاً" مقابل التطبيع.
في 6 آب/أغسطس 2020، شارك السيناتور الديمقراطي الأميركي كوري بوكر والسيناتور الجمهوري روب بورتمان في تقديم "تعزيز الإبلاغ عن الإجراءات المتّخذة ضد تطبيع العلاقات مع إسرائيل للعام 2020"، مستندين إلى مشروع قانون وزيرة الخارجية الأميركية حينئذ، والذي يدعو إلى تقديم تقرير سنوي عن "حالات انتقام الحكومات العربية للمدنيين ممّن ينخرطون في علاقات شخصية مع الإسرائيليين".
والجدير بالذكر أنّ التقرير استشهد بالمجلس العربي للتكامل الإقليمي، وهو هيئة عربية معارضة لمقاطعة "إسرائيل"، عرضت مثل هذا القانون خلال زيارة وفدها إلى الجمعية الوطنية الفرنسية في شباط/فبراير 2020.
يحار المرء هنا ممّا تشهده منطقتنا من زحف هيئات ومؤسّسات وجهات وحكومات عربية لبلوغ رضا العدو وقلب الحقائق وتشويهها كرمى لعيون ومصلحة من اغتصبوا بلادنا، ودمّروا أحلامنا، وهجّرونا، وقتلوا أطفالنا وشبابنا وفتياتنا ونساءنا، ولم يوفّروا في طغيانهم شيوخنا ولا حتى موتانا، بأيِّ حال من الأحوال.
اللافت في الأمر أنّ هذا المسار يتزامن مع شعارات فضفاضة أُغرقنا بها، واستُخدمت في عدد من الدول العربية، لتقول إنَّنا أمام استحقاقات عالمية توجب علينا أن نعمل بمبدأ التغيير الإيجابي لتحقيق طروحات ترتبط بملفات وقضايا تخدم بكلّها وكلكلها السياسات الاستنسابية والاستسلامية التي يروّج لها في منطقتنا المقاومة.
إنها شعارات برّاقة ورنّانة في ظاهرها، وهي محمودة طبعاً، ولكنّها في طياتها تدسّ السم في العسل، وفي الواقع، لا تعيد حقاً ولا مطلباً محقاً، والتاريخ يشهد على ما نقول. لقد غرقنا وأغرقنا بشعارات طالبت وتطالب بالسعي للسّلام ونبذ العنف، كما ترفض التحريض على العنف، وتطالب بالتزام شرعة حقوق الإنسان، واحترام التنوّع والتعدّدية، وحل النزاعات، وترسيخ قيم متعدّدة تندرج تحت مظلّة العدل والتسامح، والانفتاح واحترام الآخر، ولا سيّما المختلف، إضافةً إلى المصالحة والتسوية والتعايش، وغيرها من أدوات الحرب الناعمة التي تتسلّل إلى منطقتنا من خلال التطبيع وقنواته المتعدّدة.
التطبيع: واقع ومفهوم
للتطبيع معانٍ كثيرة، إذ يختلف معناه في اللغة العربية باختلاف المستخدم، كما السياق، لكنّه بشكل عام يشير إلى فعل امتلاك مهني، أو اقتصادي، أو أكاديمي، أو تربوي، أو مدرسي، أو فنّي، أو ثقافي، أو رياضي، أو إلكتروني، أو إعلامي، أو دبلوماسي... وقد يكون هذا الفعل مباشراً أو غير مباشر.
وبذلك، بتنا نعيش في زمن اللعب المكشوف والمناورات المستمرة على غير صعيد. هذا المسار أفضى إلى انتشار مجالات وميادين للتطبيع ليست قليلة في بلداننا العربية، تتستر بعناوين وعناوين تحاصرنا من كل حدب وصوب.
وعلى الرغم من وجود مقاومة مسلّحة جبّارة، وحالة عداء شبه شعبيّة طويلة مع الكيان الصهيوني، وقوانين صيغت لتطال أيّ تعامل معه وتجرّمه، بات البعض من حكوماتنا في هذه المنطقة تنتمي إلى عالمٍ منفصلٍ عن العالم الَّذي نحيا ونموت ونناضل فيه، ويبدو المشاركون فيه كائناتٍ منفصلةً عن واقع الاحتلال والظلم والقهر والمقاومة.
أصبحنا أكثر من أيّ وقت مضى ندور في فلك التطبيع بأوجه متعدّدة، فقد تقدّمنا خطوةً حيناً، وربما خطوات أحياناً، نحو قبول التعامل مع عدو محتل واستيطاني استعماري يُمارس الأبرتهايد ضد شعب كامل، كجزءٍ من سيرورة "الحياة" ومسار "الطبيعة". وهنا بالتحديد مكمن الخطورة؛ خطورة تبعات طمس الذاكرة، ومحاولات محو التاريخ كما الجغرافيا، قهراً وجوراً تارة، وبقفّازاتٍ حريرية ناعمة طوراً.
واقع قهري ومفروض يسخّر طاقات الدنيا وإمكاناتها، ويعمل من دون هوادة من خلال ضخٍ للأفكار، والصور، والتصريحات، والمصافحات، والزيارات، والتهويلات، والمُرغّبات، كما التهديدات، لتحويل دلالات التطبيع السلبية إلى مؤشّرات إيجابية تسعى إلى ترسيخ قبول الكيان الغاصب كـ"دولة يهودية" في الشرق الأوسط، ضمن مسار يعمل على دمج الصهاينة في منطقتنا المقاومة.
من هذا المنطلق، لا يتوقّف السعيُ الحثيث لإقناعنا بأنّ ما نؤْمن بأنّه غير طبيعي هو إيمان مشكوك به. وبالتالي، يندرج هذا الفعل في السعي لإقناعنا بأنّ موقفنا من الاحتلال الصهيوني لأراضينا مجرّد وهْم أو شعور ناجم عن حواجز نفسيّة سبقت زماننا، وبالتالي هي مواقف غير صحيحة وغير مبرّرة، ويجب أن تُطوى إلى غير رجعة.
مكافحة التّطبيع
تتصاعد في الفترة الأخيرة وتيرة الجدل الدائر حول التطبيع العربي مع الكيان الغاصب؛ جدل يحاول التلاعب بالعقول، من خلال ترسيخ فكرة صنع السلام "الوهمي والموهوم قطعاً" مقابل التطبيع.
لتحقيق هذا التوجّه، تدور الاقتراحات حول إيجاد صيغ تمكّن القائمين على عمليات التطبيع والساعين له من التعايش "السلمي" مع أولئك العاملين والمناضلين تحت مظلّة مناهضة التطبيع؛ صيغ تحدّ وتحدّد استخدام الوسائل المتاحة كأسلحة مواجهة لاسترجاع الحقوق، وتحول دون اتهام الآخرين بالخيانة أو التعاون أو التطرّف خدمة لمشروع التطبيع القائم على الاستسلام والخضوع، فنجد دعم النشطاء المناهضين للكيان الغاصب في جميع أنحاء العالم لسياسة مناهضة التطبيع، ورفض أيّ شكل من أشكال الحوار أو التعاون أو الشراكة مع أولئك الذين يدعمون حق "إسرائيل" في الوجود كـ"دولة يهودية وديمقراطية".
هذا الموقف يُقابله خطاب من نوع آخر؛ خطاب يرفض هذا الطرح تحت عنوان الترويج للعداء، وتبديد حلم "السلام الدائم"، الموهوم طبعاً، والقائم على ركيزة الاستسلام، لا على استرجاع الحقوق المغتصبة من البشر كما الأرض. وطفت على السطح تفسيرات وتأويلات جديدة لم نخبرها من قبل؛ تأويلات تروّج لمكافحة التطبيع بشكل نسبي أو استنسابي، فالمكافحة، في رأي هذا الفريق، لا تعني دائماً رفض جميع العلاقات. على العكس من ذلك، يوهموننا بأنّ فرض الحال من المحال، وأنّ المواقف المناهضة للتطبيع والرافضة له الآن، ستتقبله حكماً بعد تحقيق "السلام"، والمقصود هنا طبعاً الانصياع والاستسلام.
في زمن التحوّلات، ما يوجب التوقّف عنده والتفكير فيه هو رسم مسار للمواجهة الواعية لواقع يحاول تضليلنا وإيهامَنا بأنّ التطبيع أداةٌ يمكنها أن تبني الثقة والمصالح المشتركة، ويمكنها أيضاً أن تساهم في نهاية المطاف بفرص توقيع اتفاقيات التطبيع.
أمّا بالنسبة إلى أولئك الذين يطرحون الحجّة المباشرة لمصلحة التطبيع، بإلقاء نظرة سريعة على عدم الاستقرار الحالي في المنطقة اليوم، فإنَّ سجلَّ "إسرائيل" التاريخي الإجرامي والعنصري والقمعي والاستيطاني الاستعماري خير شاهد وشهيد، ولا يجب أن نغفل عن ادعاء ديمقراطية واهية وفارغة وخاوية.
في الحقيقة، إنّ التطبيع مع هذا الكيان الغاصب والغارق في دورات العنف، لن يؤدي إلا إلى تفاقم التهديدات التي تواجه المنطقة اليوم. هو تطبيع يُعمل من خلاله على طمسِ الذاكرةِ، وعلى قنص الوعي العربي ليزداد كبوة وسباتاً. هو تطبيع يسعى لفرض واقع مسالم في ظاهره، يعمل على نزع فتيل "صراع"، وفي فحواه يدجّن الجماهير لقبول الظلم، باعتباره حقيقة من حقائق الحياة.
غدونا أمام تحدّيات على غير مستوى. ارتداداتها ونتائجها مرتبطة بمخرجات المؤسّسات العلمية والتربوية والثقافية والإعلامية... ومخرجاتها تحدّد فلك صراعنا الوجودي، ومساحة مواجهة المخطّطات الصهيونية الساعية للسيطرة على جميع مقدّرات المنطقة، كما على التخلّص من الرموز المحفورة في الوجدان العربي.
نحن إذاً أمام صراع هويّات وطنية؛ صراعٍ على وجود، صراعٍ يحاول تشويه وتعطيل وإلغاء ما نختزنه من تاريخٍ وحقائقَ في مخيالنا الشخصي والجمعي على السواء، صراعٍ على أراضٍ متنازعٍ عليها، وعلى احتلال عسكري وثقافي وفكريّ مفتوح على كلّ الاحتمالات.
هي معركة جديدة وضعتنا أمام حرب كلمات ومفاهيم ومواقف؛ حرب تستوجب تسمية الأمور بدقّة لفرض تحوّل في الرأي العام. ومن يكسب هذه الحرب، سيكتب له الانتصار.
أمام واقعنا الذي نعيش، أستحضر قول الإمام علي بن أبي طالب: "لا تستوحشوا طريق الحق لقلّة سالكيه".