سياسة التنمّر الأميركيّة.. أبعادها ودلالاتها القادمة
يقوم التنمّر الجديد على مبدأي القوة والثروة، وعلى استرخاء شكليّ في الانضباط خلف القوة العظمى، وتراجع الوضوح الأخلاقي في العلاقات الدولية إلى أبعد حدوده.
منذ زمن بعيد، مارست روما التنمّر في العالم القديم، وصاغت قوانينها بالاستقواء، وفي المقدمة مذهبها في فرض ما يسمى "سلام الله" على العالم، وبالطريقة التي تروق لها. في العالم المعاصر، تعكس العلاقات الدولية المعاصرة بعد الحرب العالمية الثانية أشكالاً متعددة من التنمر والعلاقات الظالمة.
ورغم أنَّ النظام الدولي الذي ساد آنذاك اتّسم بالتوازن القطبي، ما قلَّل من حدة الاستقواء الدولي، فلا يفوت التذكير بأنَّ القواعد المؤسسة لذلك النظام قامت على فكرة الاستقواء، وأهمها آلية عمل ما يسمى "الشرعية الدولية"، وتركيبة مجلس الأمن الدولي والعديد من المؤسسات الدولية. ومع نهاية القطبية الثنائية، ودخول العالم إلى مجال الأحادية القطبية، ثم الدخول في حالة غامضة بين تعدد الأقطاب وتراجعها، بدأ التأسيس لأشكال جديدة من التنمر والاستقواء السياسي والاقتصادي والإنساني.
وقد بدت ملامح ظاهرة التنمّر الجديد تبرز بعد أن بدأ العالم يتشكَّل من جديد عقب أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 في الولايات المتّحدة. ورغم ذلك، فإن السنوات الأخيرة شهدت أعتى موجاتها.
يقوم التنمّر الجديد على مبدأي القوة والثروة، وعلى استرخاء شكليّ في الانضباط خلف القوة العظمى، وتراجع الوضوح الأخلاقي في العلاقات الدولية إلى أبعد حدوده، ما أدى إلى ظهور دول صغيرة لا وزن استراتيجياً لها، قادرة على التنمر على جيرانها، وعلى خلق التوترات والأزمات، إلى جانب تصنيع قوى إقليمية جديدة قادرة على فرض أسلوبها بالتنمر. وتقدم منطقة الشرق الأوسط نماذج واضحة على هذه الحالات.
ومن ملامح التنمّر السياسيّ الجديد، ظهور زعماء متنمّرين يمارس بعضهم التنمّر على شعوبهم من دون هوادة ولا رادع، مع تراجع قوة الردع الأخلاقي والسياسي في النظام الدولي، وظهور آخرين يتنمرون على جيرانهم ومحيطهم، وربما على العالم، وفئة ثالثة تمارس النمطين معاً.
استفادت هذه الظاهرة من النزعة الشعبوية الجديدة التي تدور حول زعماء جدد مختلفين، لكلّ منهم كاريزما خاصّة ورواية خاصة للأحداث والمستقبل، وربما لديه سردية خاصة للإصلاح والخلاص. معظم هؤلاء الزعماء يجتمعون على صفات مشتركة، تتمثل بالنزوع إلى اجترار عواطف شعوبهم، وبيعهم حلم القوة، وميلهم جميعاً إلى نزعة استبدادية، وهم لا يلتفتون كثيراً إلى مقولات حقوق الإنسان. وربما في حالات عديدة لديهم مشاعر استهانة بالجيران، ورغبة في انقيادهم إليهم، واستعداد للانقلاب على القيم السياسية السائدة، مرة بالإغراءات، وأخرى بالتهديد واستخدام القوة أو بالإهمال المبرمج.
أثبتت المعطيات أنَّ عصر التنبؤات السياسية والاجتماعية انتهى، ولكن الكثير من المؤشرات يدل على أنَّ ظاهرة التنمر السياسي ستأخذ أبعاداً أكثر تعقيداً، وربما تتشكل تفاعلات وصراعات العقد القادم على أساسها.
مثلاً، تواصل الولايات المتحدة الأميركيّة سياسة التنَمُّر على المنظمات الدولية، لا المنظّمات ذات الطابع السياسي فقط، بل يشمل هذا التنمُّر المنظمات القضائيّة والثقافية والرياضيّة أيضاً، فواشنطن التي ترسل جيوشها لاحتلال الدول المستقلة والإطاحة بأنظمتها الوطنية، بذريعة نَشْر الديموقراطية وحقوق الإنسان، تَغضّ الطرف عن الأنظمة الأوليغارشيّة الدكتاتورية في الخليج العربي، لأنّ حكّامها يُنفّذون بحماسة ودقّة إملاءاتها المتعلّقة بحماية المصالح الأميركية والإسرائيلية على حساب مصالح شعوبهم وشعوب المنطقة بأسرها.
وقد انسحبت هذه السياسة الأميركيّة على المنظَّمات الدوليّة، مثل المحكمة الجنائية الدولية، التي فرضت الولايات المتحدة عليها عقوباتها الشهيرة، على غرار إصدار الرئيس دونالد ترامب في 11 حزيران/يونيو 2020 أمراً تنفيذياً يُجيز تجميد الأصول وحظر السفر العائلي على مُوظفي المحكمة الجنائية الدولية، مُستهدفاً الأشخاص الذين يُساعدونها في تحقيقاتها، في سياق المحاولات الأميركية الحثيثة لعرقلة تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية في أفغانستان وفلسطين، والتي يمكن أن تحقق في سلوك المواطنين الأميركيين والإسرائيليين.
هذا الأمر دعا ريتشارد ديكر، مدير برنامج العدالة الدولية في منظمة "هيومن رايتس ووتش" الأميركية، إلى القول: "تجميد الأصول وحظْر السفر هما لمُنتهكي حقوق الإنسان، وليس للذين يسعون إلى تقديم مُنتهكي الحقوق إلى العدالة".
وباستهدافها المحكمة الجنائية الدولية، تُواصل إدارة ترامب هجومها على سيادة القانون العالمية، ما يضع الولايات المتحدة في صف الَّذين يرتكبون الانتهاكات الجسيمة ويتستّرون عليها، لا إلى جانب الذين يحاكمونهم.
وسَبَقَ لواشنطن وتل أبيب أن انسحبتا مِن منظمة الأونيسكو، احتجاجاً على قبول المجلس التنفيذي لهذه المنظَّمة الدوليّة طلب فلسطين الانضمام إليها كدولة كاملة العضوية، وتصديق المؤتمر العام للأونيسكو على الطلب الفلسطيني.
هذا الانسحاب الأميركي يندرج في دفاع واشنطن المستميت عن "إسرائيل"، وخصوصاً بعْدَ تبنّي المنظمة قرارات لصالح فلسطين، ورفض التدخل الأميركي أو الضغوطات من أجل تمكين سيطرة الاحتلال على مناطق في التراث العالمي، وبالتالي حجبت الولايات المتحدة الأميركية حصّتها في تمويل الأونيسكو، والتي تبلغ 22 في المائة من ميزانيتها، علماً أنّ الولايات المتحدة الأميركية عريقة في محاولة تسييس الثقافة الدولية، فقد سبق أن انسحبت من الأونيسكو لمدة 19 عاماً، وحجبت التمويل عنها، بحجة اعتراضها على سياسة هذه المنظمة الدولية، كما أنّ المخابرات الأميركيّة "السي. آي. آي" كانت تموّل عبْر العالم منابر ثقافية، مِن خلال ما كان يُسَمّى "مجلس حريّة الثقافة". ومِن هذه المنابر، المجلّات الشهيرة "براف" الفرنسيّة" و"إنكارتر" الإنكليزيّة و"حوار" العربيّة.
لا شكّ في أنّ آخر ما قد يُفكّر فيه سياسيّو الولايات المتحدة التداعيات السلبيّة لسياساتهم المختلفة على مواطنيهم وبقية سكّان المعمورة، فالولايات المتحدة التي نشأت على أنقاض شعب الهنود الحمر، متوسّلة إبادته بالمجازر والحلول محلّه بالاستيطان القهريّ، تجد في "إسرائيل" (التي نشأت على أنقاض الشعب الفلسطيني مُتوسّلةً هِيَ الأخرى المجازر الإبادية والاستيطان القهري ذاته) حليفاً وجوديّاً لهذه السياسة الأميركيّة الثابتة في عدائها الوحشيّ التاريخيّ للإنسان، بما في ذلك الإنسان الأميركيّ المُعاصر الذي ما فتئ هُوَ الآخَر يدفع ثمن السياسات العنصريّة.
كما أنّ فرضَ سياسات الهيمنة بالقوة العسكريّة، واحتلال الدول المستقلّة، وفَرْض العقوبات لتجويع الشعوب (كقانون قيصر في سوريا)، وقهر إراداتها الوطنية، وإشاعة الدول الفاشلة عبْر العالم، يُفْضي فقط إلى مجتمَع غابٍ كوني على أنقاض الشرعيّة والقانون الدوليين اللذين تعتدي عليهما واشنطن يوميّاً مِن القطب إلى القطب.
وللعمل على إنقاذ هذا الكوكب ومستقبله كوطن لا بديل منه للبشريّة، لا بدّ مِن التضافر "الشعوبي" والأمميّ والدوليّ، لِوَضْع حدٍّ لهذا العبث الأميركيّ الإسرائيلي الذي لا يهدّد أنماط العيش الوطنيّة فحسب، إنّما يَفْتِك أيضاً بشروط الحياة الحيوانيّة والإنسانيّة، وخصوصاً في ظل الحكومات الحالية لهذه الدول.