سؤال الهُويات المتغيّرة.. قراءة في المشهد الجزائري
حريّ بأن يجري العمل في اتجاه التأسيس لهوية جزائرية قائمة على بعد الجغرافيا فقط، بمعنى جزائر تضمّ أبناءها المتنوّعين المختلفين وتحميهم.
تعيش الجزائر في العقود الأخيرة على وقع سؤال الهوية الَّذي تحوَّل في ظلّ غياب رؤية علميّة موضوعيّة دقيقة إلى مسألة مثيرة للجدل العقيم والانقسام الحادّ، مع إمكانية تحوّله إلى نزاع مدمّر داخل المجتمع قد ينهي وجود الدولة.
مثل هذا الوضع تسعى السلطة الحاكمة إلى عدم الوقوع في فخه، عبر إصلاحات سياسية لترسيم الثوابت (الدين واللغة والتاريخ النضالي التحرري المشترك) في الدساتير المعتمدة. وعلى اعتبار أن هذه الثوابت متغيرة متطورة (قيم اجتماعية)، هل ينجح نظام الحكم في تفادي السقوط مرة أخرى في فخ سؤال الهوية؟ وما حظوظ الطروحات الأخرى (باسم الدين واللغة والعرق) الاصطفائية الإقصائية في فرض منطقها؟
المطالب الهوياتية انعكاس لأزمات مجتمعية عميقة!
فشلت الدولة الوطنية في تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وسياسية، بل ودخلت في أزمات عميقة متعدّدة، وصلت بها إلى حدّ التّشكيك في قدرتها على أداء وظائفها الأساسيّة ذات الصّلة بالسّياسات العليا المرتبطة أساساً بوجود الدّولة واستمرارها، على غرار القضايا السياسيّة الأمنيّة والعسكريّة والدبلوماسيّة.
هكذا تحوَّلت قضايا الأمن، وفق السرديات الليبرالية الأكثر تحرراً (ultralibérale) من أمن المواطن المتكامل الشامل (السياسي الثقافي اللغوي الاقتصادي الديني...)، مع تيار العولمة المبشّر بعالم واحد تسوده قيم حقوق الإنسان العالمية، إلى تحدٍ حقيقيّ تواجهه الدّولة.
هكذا دخل المجتمع في أزمات جرت تغذيتها من قبل أداء ضعيف، بل وأحياناً تآمري، للسلطات المتعاقبة، كما كان يحصل مع مختلف العمليات الانتخابية. ففي كل موعد انتخابي، كانت تعمل على إحياء وتحريك التنظيمات التقليدية التي تعتبر معادية ضمنياً للدولة، كالقبيلة والعرش وابن الجهة (في العقل الباطن للجزائري لا يزال ينظر إلى مؤسسات الدولة كما لو أنها مظاهر استعمارية مقيتة).
وإذا كانت نزعة العروبة في الشام ومصر، بقيادة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وجدت دعم ومساعدة الثورة الجزائرية (احتضان القاهرة لقادة الثورة) مدخلاً مهماً في احتواء مخرجاتها وتوجيهاتها.
بعد الاستقلال، أرسلت مصر آلاف المعلمين والأساتذة لمساعدة الجزائر والمساهمة في عملية التعريب. وفي ظل احتدام الصراع بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، تنامى أيضاً دور التيارات الإسلامية (غالباً كان تحت الرعاية الغربية). عمل التيار الإسلامي على أسلمة المجتمع بالاعتماد على استراتيجية قائمة على الثنائية (الإسلام واللغة العربية). وقد نجح في الضغط على السلطة منذ ثمانينيات القرن الماضي من خلال الشروع بعملية التعريب، وأصبح هذا مع جزء من التيار الوطني المحافظ يتبنى الدفاع في مسعى لترسيخها في المجتمع الجزائري.
في ما يتعلّق بأزمة الهوية ذات الصلة بالأمازيغية، فإنها تعود أساساً إلى الأزمة التي عرفتها الحركة من أجل الانتصار للحريات الديموقراطية حول المسألة البربرية في العام 1949، وهي الأزمة التي يرى بعض الباحثين أنها لم تكن سوى رد فعل طبيعي على رضوخ مصالي الحاج لضغط القوميين العرب، وعلى رأسهم عبدالرحمن عزام، الذي ساوموه - كما يبدو - بين دعمهم السياسي للقضية الجزائرية في هيئة الأمم مقابل إقصاء البعد الأمازيغي وتبني الطرح القومي العروبي في الجزائر، كما يذهب إلى ذلك أستاذ التاريخ رابح لونيسي.
وفي الاتجاه نفسه، يقول لونيسي إن هؤلاء، أي "البربريست"، لم يطرحوا في العام 1949 إطلاقاً فكرة أن الجزائر أمازيغية أو عربية أو شيء آخر، بل "إن الجزائر لا هي أمازيغية ولا عربية، بل هي جزائرية فقط بكل مكوناتها"، وهم يرون أن الجزائريين هم جزائريون وكفى، ولو تحدث بعضهم بالعربية.[1] ورغم الإقصاء الذي تعرضت له الأمازيغية، لغة السكان الأصليين، فقد انتبهت السلطة إلى ذلك في العام 1996، وتمت دسترة الأمازغية في عهد الرئيس زروال.
وأقدّر أنّ توظيف الأبعاد الثلاثة يبقى موضوعاً للصراع والتجاذب، ولا سيما في ظل استمرار أزمة الدولة، وعزم السلطة الحالية على الدخول في مرحلة جديدة بجزائر جديدة. هذا التوجه الجديد، بحسب قولها، يقتضي التصالح مع ذاتها وتاريخها وعمقها الأمازيغي، مع الروافد الأخرى الإسلام والعربية، غير أن هذه الإرادة ووجهت بمواقف ومحاولات بعض الجهات المتطرفة الممثلة لحالة متردية تريد فرض رؤيتها الإقصائية، سواء ما تعلق بالدين أو باللغة، وهي مساعٍ ستؤدي حتماً إلى حالة من التصادم والتردي، فهل ستشكل هذه المطالب حقاً خطراً على الدولة المتأزمة؟
خطر الهويات العابرة للحدود على الدّولة
تجدر الإشارة إلى أنَّ مسالة الهوية لم تعد مقتصرة فقط على المجتمعات المتخلفة المتأزمة في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، بل وفي المجتمعات الغربية ذاتها، فالجميع أصبح يواجه ما يعتبر تهديدات للهوية (صعود خطاب الكراهية ضد الأجانب وعودة العنصرية ضد الزنوج)، وهناك الكثير من الكتابات في هذا الشأن، كما هو الحال مع الكاتب صموئيل هنتغتون الذي كتب في العام 2006 مقالاً عالج فيه سؤال: من نحن؟ وهو عبارة عن دق ناقوس الخطر ضد المخاطر المحدقة بالولايات المتحدة، كتلك التي يمثلها العنصر اللاتيني. بالنسبة إلى الحالة الجزائرية، أقدر أنّ خطر المنتصرين لأبعاد الهوية حاصل لا محالة إذا لم يتم تداركه.
بالنسبة إلى الدين، سيكون لفهمه وتأويله مخاطر حقيقية على الدولة، بل وعلى الدين ذاته، لكون المدافعين عنه تيارات سلفية ماضوية متشدّدة منغلقة، تستمدّ فهمها، بل وتجد دعماً لها من بيئة تراثية تقليدية، كما يذهب إلى ذلك المفكّر الحاج أوحمنة دواق، إذ يقول: "العقل الإسلامي الَّذي لا زال يتكئ على القرون الماضية هو عقل يعيش أزمة نوعيّة خطيرة جداً... ألا تعتقدون معي أنّنا نعيش أزمة نوعية غير عادية؟ إنَّ إنساناً مات منذ قرون (الشافعي) لا يزال يؤطر عقلاً يفترض فيه أن يكون حياً، الحي الذي يستنجد بالأموات باستمرار"[2].
واستطرد قائلاً إنَّ "العقل الذي يطمئن إلى قول الأموات، ولا يطمئن أو يتحمل قولاً جديداً، العقل الذي يسرف في سرد نصوص السابقين، ولا يستطيع أن ينشئ فهماً ونصاً جديداً، وينشئ نفسه من جديد، وينبثق منها الانبثاق الجديد الذي سيواجه به العالم."[3]
ولنا أن نتخيَّل، في حال وصول هؤلاء إلى الحكم، طبيعة ونوع التشريعات والأحكام التي سيسير بها المجتمع، وحتماً سيكون رد فعل المجتمع الرفض لمشروعهم، بل والحرب عليهم من الداخل والخارج، علاوة على تبني هذه التيارات في معظمها لنزعة عابرة، بمعنى أنها مرتبطة (عضوياً ووجدانياً) بتنظيمات في مجتمعات ودول أخرى، وتطرح لديهم بحدة مسألة الولاءات للدولة (لا تؤمن بالحدود الطبيعية أو بوطنية التراب، كما تحبّ أن تسميها).
والأمر نفسه حصل ويحصل مع التيار البعثي العروبي، وهو تيار لا يؤمن بحدود دولة الاستقلال أو بتعبير أدبياته "الدولة القطرية"، ويراها وكأنها ظاهرة استعمارية. لقد عمل على اختراق كلّ المجتمعات العربية والناطقة بالعربية، وأدت سياسته إلى إحداث انكسارات وانقسامات حادة داخل هذه المجتمعات. وأرى أن احتكاك قادة الحركة الوطنية والثورة التحريرية بهذا التيار، دفعه إلى تبني إيديولوجيتهم القائمة على ضرورة تعريب المجتمعات لمحاربة الثقافة واللغة الاستعمارية الدخيلة (الفرنسية استعمرت فرنسا الجزائر من 1830 إلى 1962).
وقد عرفت الجامعات صراعاً حاداً بين تيارات إسلامية عروبية مقابل تيارات ليبيرالية رافضة للتعريب ومساعي أسلمة المجتمع. ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، شرعت الحكومات الجزائرية المتعاقبة في سياسات التعريب.
في ظلّ غياب منهجية علمية دقيقة، نتجت من تعريب المدرسة أجيال من الجزائريين لا يحسنون لا اللغتين العربية والفرنسية، ولا يتمسك الكثير من الجزائريين بلغة الأم الأمازيغية، وظهر جزائريون "عرب" أكثر من العرب العاربة، وإسلاميون جزائريون لا يؤمنون بجزائريتهم. وأعتبر أن مأساة الجزائر في التسعينيات والصراعات الحادة الحالية في جزء منها هي بسبب مثل هذه السياسات (فضلاً عن أسباب أخرى، منها إدماج الجزائر في المنظومة الليبرالية، مهما كانت التكاليف)، فهل يمكن اعتبار الاكتفاء بالانتماء إلى الجزائر خلاصاً من أسباب التنازع والصراع؟
نحو هوية جزائرية ثابتة مستمرّة
في ظلِّ غياب إطار حياديّ، تظلّ متغيّرات العرق والدين واللغة مصادر للتنازع والصراع والاقتتال، فاختزال الهوية بسؤال: من أنا؟ كما يذهب إلى ذلك تشارلز تايلور، هو هوية بسيطة (منغلقة ومتقوقعة وإقصائية). والهوية، يقول، هي الأفق أو المجال الذي أستطيع أن أتّخذ بموجبه موقفاً، أن أحتلّ موقعاً، وأمتلك مبدأ وسلوكاً وعقيدة... والذي يتغيّر ويتطور بانفتاحه وتواصله مع المختلف، وغياب هذا الأفق معناه ضياعاً وأزمة واغتراباً وموتاً.[4]
وأقدّر أنه، وبالنسبة إلى الحالة الجزائرية، بل وكل منطقة شمال أفريقيا، لم تعد مسألة الهوية تحمل عنواناً محدداً، سواء كان دينياً وعرقياً ولغوياً، نتيجة التفاعل والانصهار الذي شهدته مجتمعات هذه المنطقة، وهو ما يذهب إليه محمد الكوخي، الَّذي يدافع عن قول التعدد والانصهار في تعريف هوية الإنسان في المنطقة، التي ساهمت فيها عناصر متعددة ذات جذور متنوعة في تشكيل هوية الإنسان في جميع مستوياتها. وفي خضم هذه العملية التي امتدت على طول تاريخ المنطقة منذ عشرات آلاف السنين، حصل انصهار كامل لتلك العناصر في ما بينها أو ما يمكن التعبير عنه بالوحدة في التعدد.[5]
تبعاً لذلك، أرى أن يجري إحلال قيم الجزائريين بدلاً من ذلك، كنصرة المظلوم، والوفاء بالعهود، والصدق، والكرم، وتوطين قيم المواطنة والحق في الاختلاف والتنوع والتداول السلمي للسلطة، من دون النظر إلى لون ولغة ودين المواطن المنوط به واجب الدفاع عن الجغرافيا التي ينتمي إليها وحمايتها، في ظل تمتعه بحقوق مقدسة.
أما الدين، فهو علاقة الإنسان بربه، واللغة تتحدد مكانتها بقوة الدولة اقتصادياً وعلمياً. وهنا نكون إزاء القيام باختيارات عقلانية علمية دقيقة، بما يتوافق مع الانتماء إلى الجغرافيا الجزائرية. على سبيل المثال، هل يجري تطوير اللغتين على حدة أو تطوير لغة جزائرية مشتركة تجمع بين اللغتين؟
وأخلص إلى أنَّ الهوية ليست قانوناً طبيعياً ثابتاً لا يتغيّر، مثل شروق الشمس وغروبها، إنما هي ظاهرة اجتماعيّة تتّسم بالتغير المستمرّ لمقوّماتها. وعليه، أرى أنه، وإن كان معقولاً في هذه الفترة تأكيد السلطة الحالية على جعل الثوابت الثلاثة عنوان وروح هوية الشعب الجزائري، إلا أن ذلك غير ضامن للاستقرار في المستقبل، لكونها قيماً متغيرة مرتبطة بتطور الإنسان والمجتمع والدولة في عصر التكنولوجيا، التي أصبح تأثيرها في خلق القيم أقوى من كل المؤسَّسات التقليدية، الأمر الَّذي قد يحوّلها في أي لحظة إلى أدوات للصراع والتنازع المدمّر. وبناء عليه، وبدلاً من ذلك، حريّ بأن يجري العمل في اتجاه التأسيس لهوية جزائرية قائمة على بعد الجغرافيا فقط، بمعنى جزائر تضمّ أبناءها المتنوّعين المختلفين وتحميهم.
[1] - رابح لونيسي، المسألة الأمازيغية في الجزائر "الجذور والمآلات".
https://cutt.ly/OfZHvc1
[2] - الحاج أوحمنة دواق،
https://www.youtube.com/watch?v=2lB6mpZLzmM&t=41s
[3]- الحاج أوحمنة دواق،
https://www.youtube.com/watch?v=2lB6mpZLzmM&t=41s
[4] - https://www.tunisie-education.com/threads/2839/
[5] - محمد الكوخي، سؤال الهوية في شمال أفريقيا، ص 4.