التطبيع الإماراتي والخطأ التاريخيّ المنتظر
السير خلف قاطرة التطبيع معناه بداية الانتحار، لأننا نعيش وضعاً عالمياً يتغير فيه كل شيء بسرعة، وتظهر مع هذا التغيير مفاهيم جديدة.
يحاول أعضاء جماعة استراتيجية التطبيع الموهومة عبثاً تمرير خطاياهم بالتوصيف المبلل بالدم لما يمكن أن يحفظ بقايا شظايا التاريخ التي تغطي دولهم المهترئة... محاولات أشبه بالمستنسخ من رماد الأحداث، تضغط فيها قوة المال للحيلولة دون الانهيار في دولهم، والسبب واضح، والمراد أيضاً واضح، ما دام التغيير أو الانقلاب على الحكم "السلالي" أضحى مبدأ مسلماً به، وقاب قوسين من حركة الانفجار.
من المؤكّد أن كل محاولات الهروب بفساد الداخل إلى الخارج، وعلى رأسه "إسرائيل"، سواء بالتطبيع أو بالعمالة لها، إرضاء لأميركا، ولتثبيت عروشهم، تعد هروباً يرفضه التاريخ الذي يؤكد أن التغيير من الداخل لا من الخارج.
لذلك، إنَّ محاولات تصدير الاهتراء مسبقاً بالتطبيع، تبدو موضوعة مسبقاً في مجرى الخطأ العام، وفي مساحة غير مساحة الفعل الواعي. حاولت أميركا وأوروبا قبل دول التعفّن الخليجي تصدير عجزها المالي بإرهاب الدول، لكنها في النهاية دخلت في مواجهة مع الخطأ الذي حاولت تصديره.
إن الذين خرجوا أو يخرجون للتو من مربع البداوة، وربما المهانة، ويدخلون قصوراً لم تكن إلا مجرد إشارات تتراءى لهم في الأحلام، ينقلبون إلى مفسدين، وهل هناك فساد أسوأ من خيانة فلسطين والمسجد الأقصى؟
لم تكن جماعة الحكم السلالي في الخليج - وخصوصاً السعودية والإمارات - في بداية السبعينيات من القرن الماضي إلا نسياً منسياً؛ جماعة تجوب الفيافي، وتصطاد الطيور، وكان المتعلمون فيهم وقتها قليلين جداً، والحاكمون، وإلى اليوم، لا يملكون من العلم إلا قليلاً، وربما فيهم من لا يستطيع قراءة النص المكتوب له.
هذه حقيقة يقينية لا يمكن الاستهزاء بها. وحتى اليوم، لم يتمكنوا من تجاوزها، وما يقومون به في اليمن اليوم هو الواجهة الصلبة لهذه الحقيقة، فهل خارطة اليمن بفقرائها والمظلومين فيها تحتاج إلى هذا الهيجان من دول عربية أغلبها تمثل الأسوأ في التاريخ العربي والحضارة اليوم؟
هل هناك رعونة أكثر من هذه الرعونة؟ ذمم دول تشترى بالمال السعودي، مثلما حدث مع ماليزيا، ما دعا السيد مهاتير محمد إلى القول: "السعوديون لا يخربون فقط، بل سرقوا أموال الصندوق السيادي لماليزيا"، بل إنها دول تسبح في دماء أهل اليمن وقتل الأطفال وإحراق ما تبقى في أرض اليمن، وبأوهام رصدت لها مسبقاً.
يتمّ هذا التواطؤ وتلك الخيانة فيما النخب، أو ما يدعون بالنخب وأهل الفكر الديني في الخليج، تائهة بين الولاء الأعمى للحاكم والولاء للخيانة بالتطبيع! بل أخذ البعض منهم من المتاجرة بالسياسة بعداً آخر إلى المتاجرة بالدين والمقدسات.
والأسوأ من ذلك هو أنّ الكلّ من دعاة التطبيع يسير باتجاه الوراء، وكأن العالم مجرد صورة كاريكاتورية تحركها الأصابع من خلف الستار. بالتأكيد، لسنا بؤساء بماضينا، فالحضارة كانت ذات يوم من صنعنا، وتوسّعت دائرتها لتشمل كلّ حيّ وكل جماد، فمن أين جاؤوا بهذه الأوهام والواقع الفكري يرفض هذا؟ ثم إنّ التمركز اللاواعي في حفريات الماضي التجزيئي وحده، بقصد اكتساب المواقع وعدم التجديد لها، وبالآليات التي تحكم الحاضر، هو بداية السقوط في اللاوعي والانتصار للخطأ. أليس المستقبل رؤيتنا جميعاً؟ أليس من حق الأجيال أن تعيش في ضوء هذه الرؤية، وبالوجوه التي بإمكانها التأثير الإيجابي في مستقبلها؟
إنَّ السّؤال لا يحتاج إلى شرح أو تأويل، إذ إنَّ المطلوب من كل حاكم خليجي على وجه الخصوص أن يعي حقيقة التفكير في ما سيكون عليه المستقبل في ضوء التهديد الإسرائيلي الأميركي لهذا المستقبل بالتشتيت والهيمنة الاستعمارية، وأن يعي أيضاً أن السير خلف القاطرة معناه بداية الانتحار، لأننا نعيش وضعاً عالمياً يتغير فيه كل شيء بسرعة، وتظهر مع هذا التغيير مفاهيم لا ترحم أحداً، ولا تنتظر أحداً بقصد الوصول إليها، والأخذ بمحتوياتها، والتكيف أيضاً معها.
إذاً، لماذا هذا البؤس الذي يلفّنا وهذا التواري؟ إن كان الحاضر - وهذا مؤكّد - امتداداً للماضي، فالماضي بالخصائص التي صنعتها أمّتنا ما زال قادراً على دفع الواقع نحو سلّم العطاء الحضاري، لا نحو التطبيع المجازي مع العدو، بل للاستعمار.
إنَّ ثوابت الأمة العربيَّة ما زالت بعد غير متآكلة لدى الكثير من الدول العربية الرافضة للخيانة. إن الخروج عن حاصل الماضي بآليات الحكم والوجوه نفسها، والبدء بما يناقضه، يعني الانطلاق من الفراغ.
إنَّ محنة فلسطين والأقصى، اليوم وفي ما مضى، آتية من أدعياء الوصاية على الإسلام زوراً. واليوم، هم يحرقون ما تبقى منه بالتّطبيع، بعد أن أحرقوا غالبيته بما أسَّسوه من "الدواعش" والفواحش، وما قدَّموه رشاوى للغرب كله.