انتصار اليمين الأوروبي هزيمة للتقليد السياسي
قد يكون صعود وفوز اليمين الأوروبي بمثابة مؤشّر يمهّد لفوز اليمين الأميركي المتمثّل بالرئيس الأسبق ترامب، لناحية فوزه بالوصول إلى البيت الأبيض في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة.
ولو كان من المعلوم في السياسة الدولية أن البرلمان الأوروبي لا يؤثّر مباشرة على السياسة الخارجية لأوروبا مجتمعة، ولا حتى على سياسة الدول الأعضاء منفردة، بالمباشر، إلا أنه يعكس المزاج الشعبي الأوروبي عموماً، وعليه تبنى التداعيات السياسية غير المباشرة للنتائج، على أساس أنه استبيان للمزاج المجتمعي، أكثر منه انتخاب مباشر له آثار تشريعية أو تنفيذية.
إنّ تقدّم اليمين الأوروبي كانت له مؤشّرات وسوابق في انتخابات وطنية في العديد من الدول الأوروبية قبل الوصول إلى انتخابات الاتحاد، لقد شهدنا انتصاراً لليمين في كلّ من هنغاريا، سلوفاكيا وهولندا، وصولاً اليوم إلى تحقيق التقدّم اللافت في دول مؤسسة ومؤثّرة على الاتحاد الأوروبي مثل فرنسا وألمانيا.
تعريف اليمين السياسي
طالما ينصبّ اهتمام اليمين السياسي ـــــ على عكس اليسار ـــــ على الوضع الداخلي للدول، الحالة الداخلية والوضع المعيشي، ولا يهمّه الاعتماد أو الدخول في أيّ اتحادات أو توسّعات يعتبرها تؤثّر على الوضع والمصلحة الداخلية على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
وعندما يصل هذا المزاج إلى مستويات عالية غير مسبوقة في دول تُعدّ عصب الاتحاد الأوروبي، هنا يجب أن تقرع أجراس الخطر على مستقبل وجود وديمومة هذا الاتحاد، وهذه هي حال فرنسا وألمانيا اليوم ولا سيما مع وجود السابقة اللافتة تاريخياً، وهي خروج بريطانيا السابق من الاتحاد الأوروبي، عندما كانت من كبريات الدول المؤسسة له.
الأزمات الاقتصادية
يعتبر اليمين الأوروبي أنّ السبب الأبرز للأزمات الاقتصادية التي تعاني منها الدول الأوروبية هي سياسة الاتحاد الأوروبي المتناهية تماماً مع السياسة الغربية، وأنها تغلّب المصالح الدولية على المصالح الوطنية المحلية. ويعتبر اليمين في هذا الصدد، أن التحالف مع الغرب طبيعي كدول أوروبية ولكن أن لا يكون على حساب المصالح الوطنية.
ومن هنا يرى أن التنافس الدامي مع الصين اقتصادياً لا يؤمّن الاستقرار والازدهار الاقتصادي، وكذلك التماهي المطلق مع الإدارة الأميركية في فرض العقوبات على روسيا والانزلاق نحو تمويل أوكرانيا في حربها على حساب الاقتصاد الأوروبي، لا يؤمّن مصلحة المواطن والاقتصاد للدول الأوروبية ولا سيما لناحية موارد الطاقة وما لها من انعكاس على الانكماش الاقتصادي والتضخّم وارتداداته المباشرة على الغلاء والبطالة.
اليمين لا يجنح شرقاً لكنه على عكس الوسط الليبرالي يوصي باعتدال النظرة إلى الغرب على أساس أولوية المصلحة الوطنية والبنية الداخلية ولو كانت على حساب أيّ اتحاد أو تحالف أكان عابراً للقارات أم قريباً جداً.
تراجع شعبيّة حزب الحرب الأوروبيّ
إضافة إلى جملة الأسباب الاقتصادية المباشرة التي كان لها الأثر الأكيد على المزاج الأوروبي، هناك أسباب ورسائل سياسية من خلال نتائج هذا التصويب، وأبرزها رفض وتراجع شعبية حزب الحرب الأوروبي، إذ إنّ مجمل الحكومات أو الأحزاب الحاكمة التي تتألف منها الحكومات داخل الاتحاد الأوروبي، تشجّع الحرب المعلنة من الناتو أو الغرب عموماً ضدّ روسيا، وحتى إن الدعم المتناهي لـ "إسرائيل" في حرب الإبادة التي تقوم بها ضدّ الشعب الفلسطيني في غزة، لا يروق بالمطلق للمجتمع الأوروبي الذي ينادي بالقيم والحداثة والديمقراطية.
لذلك وكما يقال في السياسة، ولكلّ شيء حساب، كذلك الأمر للمواقف والإجراءات السياسية حسابها وانعكاسها، ولا سيما في الدول الديمقراطية التي تقيم للمعايير الديمقراطية والإنسانية اعتبارها، ومن هنا أتت رسالة المجتمع الأوروبي للحكومات بأن أوقفوا الحروب التي لا طائلة منها، وأوقفوا التمويل الذي يصبّ في خانة التحالفات الدولية، وآن الأوان للنظر والعودة إلى الداخل الوطني والاهتمام بالمصالح الداخلية بدلاً من تسخير الاقتصاد والثروات الوطنية في سبيل دعم تحالفات وسياسات خارجية لا تصبّ في مصلحة المواطن المباشرة.
تداعيات صعود اليمين الأوروبي
حتماً إن أكثر المتأثّرين في هذا التغيّر في المناخ السياسي الأوروبي هي الدول الأكبر والأكثر تأثيراً في الاتحاد، وإن بدا الزلزال فورياً وسريعاً في فرنسا متمثّلاً في حلّ مجلس العموم ودعوة الرئيس ماكرون إلى انتخابات مبكرة، إلا أنّ فرنسا حتماً ليست الوحيدة التي طالها هذا الزلزال السياسي، وإنّ ألمانيا على خطاها تسير نحو أزمة سياسية حادة قد لا تصل إلى مرحلة حلّ البرلمان، ولكن حتماً سيكون الحزب الحاكم في مأزق وفي حاجة إلى أمرين فوريّين؛ الأول إعادة النظر في السياسات الاستراتيجية التي من الممكن أن تعود لترضي الشارع والرأي العام المنتفض، فليس كلّ من صوّت لليمين مؤمن بكلّ الأفكار إنما أيضاً استفاد اليمين من موجة النقمة على الأحزاب التقليدية وسياسات الحكومات.
كما أنّ دعوة ماكرون ربما أتت للحدّ من الأضرار السياسية والخسائر الشعبية، إذ يعتبر أنّ اليوم أفضل من الغد بالنسبة له، فاذا كان له اليوم قاعدة ولو متراجعة يستطيع من خلالها المواجهة، قد لا تكون هذه الفرصة متاحة في الموعد العادي للانتخابات المقبلة، لذلك ربما إن أرادها مبكرة، قد تكون مجازفة ولكنها بعد حين ستكون بمثابة انتحار سياسي حتمي، إذ لا تطوّرات إيجابية يقدّمها لفرنسا في المدى المنظور لا على المستوى الاقتصادي ولا السياسي الداخلي ولا حتى في السياسة الخارجية، خصوصاً بعد التراجع الحاد للنفوذ في أفريقيا، وما له من تداعيات مباشرة على السياسة والاقتصاد، وكذلك مؤشرات الحرب الأوكرانية التي لن تأتي بنتائج سياسية إيجابية بالنسبة للدول الداعمة لأوكرانيا بحسب مسار التطوّرات الميدانية، ولا حتى مؤشرات الاقتصاد الداخلي المثقل بتبعات اللجوء والبطالة والتضخّم.
ترامب عائد
وأخيراً قد يكون صعود وفوز اليمين الأوروبي بمثابة مؤشّر يمهّد لفوز اليمين الأميركي المتمثّل بالرئيس الأسبق ترامب، لناحية فوزه بالوصول إلى البيت الأبيض في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، خصوصاً أن عوامل ازدهار اليمين الأوروبي متوفّرة بالمقاييس الأميركية نفسها.
فالاقتصاد يعاني، والإخفاقات في السياسة الخارجية الأوروبية لا تقلّ حدّة عن تلك الأميركية من أوكرانيا إلى غزة فسوريا والعراق، والإنذارات المقبلة من تايوان والفلبين لا تنبئ بالخير، أضف إلى احتراف ترامب لعبة المهاجرين والجميع يتذكّر جدار ترامب الشهير، على أمل أن تكتفي أوروبا بفرط عقد الاتحاد ولا نرى نتيجة الانقسامات الأيديولوجية الحادة، جدارَ برلين جديداً، ودائماً يجب البحث عن المستفيد، وعندما يعرف السبب، يبطل العجب.