ماذا حدث في بيروت قبل أن يبدأ الصراخ؟
أهذا هو وعدك يا بيروت؟ يا فاتنة الدنيا، أهذا هو جرحك المفتوح الذي لن يعيد إلينا سلاماً ناعساً، كراحة وجهك الصباحيّ؟ لكن لا عليكِ، عند الفجر، ستبزغ شمسك، وننشد لك "من قلبي سلام لبيروت".
وقع الانفجار. سمعه كلّ من كان في لبنان، وعلى الحدود، وفي البلدان المجاورة. من كان في الجنوب أخبر من يسكن العاصمة بأن هناك شيئاً ما يحصل. فزع اللحظات الأولى يدمي البال. شيء ما يحدث في البلد برمّته. مجهول صرخ في أذن هذه الأرض وسمعته كل الآذان! خيّل إلينا في اللحظات الأولى أن انفجاراً وقع في كل بلدة من بلدات لبنان، وآخر وقع في بيروت، لكنه الأضخم. الصّور بدأت تصل من كلّ مكان. شيء ما هزّ هذا البلد!
إنَّها بيروت إذاً. انفجار وقع في قلب عاصمة العواصم. عروس الشرق تنهمر ألوية الدخان من رأسها. ألوان زاهية مشرقة، على الرغم من أن المصاب جلل. السماء زهرية اللون، ليس كما الانفجارات العادية. كل شيء لبيروت مختلف. لون الدم ولون الزهر اجتمعا في السماء. حدث هذا كله قبل أن يبدأ الصراخ.
انفجار في مرفأ بيروت. شهداء في كل مكان، جرحى، رائحة الموت تفوح من بيوت بيروت وشوارعها، دماء تلوح في الأفق، وهناك أناس اختفوا، فقدوا، تقطعت الاتصالات بأهاليهم، هؤلاء لهم قصص مخيفة، طوابير من الناس الشاحبة وجوهها أمام مستشفيات بيروت. أحدهم يسأل عن ابنه الذي يعمل منذ سنين في المرفأ. ابنه مفقود. لم يسجّل اسمه بين الشهداء الَّذين قضوا في الانفجار، ولم يكن بين الجرحى. يقسم التوتر ملامحه. الشفاء في الجواب. تلقي خبر الموت أهون من انتظاره على كل حال!
لم يغمض جفن لبيروت يوم الرابع من آب من العام 2020. هذا التاريخ صار معمّداً بالدم. سيحفظه العالم أجمع. تكدّس الموت فيه. لم يغفُ من استشهد له صديق أو والد أو طفل أو أخٌ رؤوف، ولم ينم من تحطّمت أبواب بيته. كان المشهد سريالياً لفرط ما رأينا من مصائب مكدّسة فوق بعضها البعض. الجميع تريّث كي لا يسرع الصباح في المجيء ونعلم أكثر. الصباحات تكشف كل شيء!
قضيت الليلة بثقلها وغمّها. بدا في الصباح كل شيء مختلفاً. غيوم سوداء كأنها الحرب العالمية، كأن ما يحصل فيلم غير لطيف يحدث في عالم مختلف عنّا! الجنون يخيّم على بيروت، العبث، اللاشيء في كل مكان، جثث في البحر، وأخرى تحت الركام، عدّاد الضحايا يرتفع كل دقيقة، ماذا أصاب بيروت؟ هل تصح الروايات أنها تعرّضت لقنبلة نووية أو هو اعتداء من عدو نعرفه جميعاً؟ أياً يكن، هذه البلاد لم تُترك فيها موبقة من دون أن تُرتكب!
لا سبيل آخر غير الحزن الممزوج بالغضب. هذه العاصمة المتمسكة بشاطئ المتوسط كعشقٍ أبدي تدفع ثمن الجغرافيا وسيكولوجية الإنسان الحاكم. أطنان من الكيماويات القادرة على تدمير بلد مركونة باستهتارٍ مرعب ومريب، هل هو الفساد وحده أو أصابع الغدر أيضاً، تكاتفت معاً لتطعن العاصمة في القلب؟ الدمار للوهلة الأولى "هيروشيمي ناكازاكي". بيروت تدخل التاريخ أيضاً كحاضنة عالمية للمأساة.
سويسرا الشرق منكوبة، وأهلها متعبون من ترادف الأحداث الخانقة. وطن الآهات لم يترك في الفضاء متسعاً للأمل. نعم، إن الأمل صار المعجزة المنتظرة في كوكبة الشرق، العزاء لمن؟ العزاء للمؤمنين بكيان الدولة، لأهالي الشهداء والجرحى العزاء، للإنسان اللبناني، ابن الأرض والتراب، العزاء للشهداء الذين حرروا لبنان من كل الاحتلالات، العزاء للأدباء والشعراء الذين كتبوا للبنان وغنّوا له، العزاء لمن صاغ الدستور، ووضع الأرزة في العلم، العزاء للمقاومين والأسرى المحررين.
لقد أصابت الفاجعة اليوم عاصمة الدولة، وعلى الأغلب سيضيع دمنا بين القبائل!