من دروس الاتفاق الأوروبي حول خطة دعم النهوض الاقتصادي
متى نستفيق ونقوم بمساءلة الذات ونعتبر من دروس الآخرين؟ الوحدة بالنسبة إلى دول المنطقة العربية أكثر من مسألة موت أو حياة!
توصّل زعماء الاتحاد الأوروبي إلى اتفاق بشأن خطَّة النهوض باقتصاد دول الاتحاد في مرحلة ما بعد جائحة كورونا، وذلك بعد مفاوضات عسيرة امتدَّت لأربعة أيام متواصلة، تميزت بتباين الآراء والمواقف بين الدول المحورية في الاتحاد (ألمانيا وفرنسا)، ونظيرتها الأكثر تضرراً من الجائحة (إسبانيا وإيطاليا)، والتي يتوقّف اقتصادها حالياً على ضخّ مساعدات وقروض من أجل دبّ الروح والحركة في الدورة الاقتصادية.
تكتسي المرحلة حساسية خاصَّة، إذ إنَّ جميع دول الاتحاد الأوروبي تعاني منذ سنوات ركوداً اقتصادياً مقلقاً زادت من حدته الجائحة، وعقَّدت مسألة تدبيره وتجاوزه، بفعل الانكماش الاقتصادي الذي أفرزته. ورغم ذلك، تم بناء اتفاق وُصف بالتاريخي، منح الأمل في تقوية لحمة النسيج الداخلي للاتحاد واستشراف مستقبل أفضل.
مما لا شكَّ فيه أنَّ عملية التوصل إلى اتفاق تقدّم الدروس والعبر لمن يعيش تحت وطأة الاختلاف والانشقاق والتآمر وتبديد الطاقات في الهدم والتخريب الذاتي. غالباً ما نركّز في المنطقة العربية على المعطى الثقافي والتاريخ المشترك للدول العربية وسلاسة التكتل إذا حضرت الإرادة السياسية، لكن هدف الوحدة ظلَّ وجدانياً، ولم يحظَ بواقعية التحقق في ظلّ تجربة حقيقية لعوامل متعددة ومتشابكة، ولم نزدد كعرب إلا بلقنة وتطويقاً، ولم ننكبّ على عقلنة دراسة بعض المحاولات الشجاعة التي آلت إلى الفشل.
تكتنف علاقات الدول الأوروبية خلافات تاريخية أكثر دموية وتعقيداً من تلك التي تستوطن العلاقات بين دول المنطقة العربية، غير أنَّها تمكَّنت من تجاوزها، وقدست المصلحة العامة، وجعلت للتاريخانية اعتباراً ووزناً في رؤيتها لتجليات الحاضر واستشرافها لممكنات المستقبل.
من المؤكّد أنّ هناك عبراً تستشفّ من عملية التوصّل إلى اتّفاق يحقّق الإجماع ويمنح الطمأنينة بخصوص المستقبل المشترك لدول التكتل الأوروبي، وسنركّز على ما يلي:
الجانب النفسيّ
تمنح تجربة الوحدة الثّقة بالنفس، وتمثّل قوة دفع تحفيزيّة لمكوّنات الكيان الأوروبي، وتهب الشخصية المطلوبة للإقبال على تحديات المستقبل ومجابهة جبابرة القوى العظمى. وفي غياب الوحدة، لن يحدث سوى الانكسار والإحباط وفقدان البوصلة.
الوحدة مسألة حياة أو موت
ترقى تجربة الوحدة عند الأوروبيين إلى ضرورة اقتصاديّة وسياسية لمواجهة الوضع الاقتصادي المتأزم وتدبير المرحلة، بتوحيد القدرات والطاقات والأفكار، وبناء المستقبل المشترك لدول الاتحاد التي قد تتقهقر في حالة التفكك والانشطار إلى شظايا دول مسلوبة القرار وحق بناء الرؤية.
من النافل القول أنَّ الدول الأوروبية تعي جيداً أنها، منفردةً، غير قادرة على البقاء وفرض الذات ومجابهة القوى العالمية، من قبيل الولايات المتحدة الأميركية والصين وروسيا.
العقلانية وواقعية الممكنات
مهما بلغت حدة المشاكل والأزمات، فهناك قدرة على إبداع الحلول والبدائل، ووضعها للتفنيد والإغناء عن طريق التفاوض والحوار. يتعامل ميدان السياسة في الجغرافيا الأوروبية مع الممكنات، ويستبعد الإيديولوجيات والوجدان. إنه فن تدبير المصالح، حيث تعلو المنفعة على باقي الاعتبارات، وتتموقع العقلانية في صلب العقل الأوروبي الذي أبدع التنوير وأنتج تجارب الحداثة المختلفة في المنطقة الأوروبية.
مهما تباعدت الرؤى والأهداف، فإنَّ كيان الاتحاد كتجربة تنمو وتتطور وتكابد الويلات، يمنح رؤية المستقبل والنواة الصلبة لجميع الأفكار والمشاريع الأوروبية.
نوعية المفكّر فيه تحدّد موقع الدول ومستقبلها
تتمحور اهتمامات السّاسة الأوروبيين حول مساءلة عوامل الارتداد وسبل الانطلاق من جديد للحفاظ على نمط عيش المواطن الأوروبي ومجابهة باقي القوى العظمى والمنافسة على الريادة العالمية، بينما يستوعب مجال اللامفكّر فيه فكرة الارتهان إلى أمجاد الماضي، والمناداة بنقل نهج الأسلاف ونسخه، والعيش على الأوهام والهوس واللوم، والتحالف مع الأطماع الخارجية لإغراق الجيران والتآمر على تطويقهم. يتم التعامل مع الماضي بإيجابية وفكر نقدي عقلاني يسعى إلى استخلاص الدروس والعبر وتجنّب تكرار الهفوات نفسها.
متى نستفيق ونقوم بمساءلة الذات ونعتبر من دروس الآخرين؟ الوحدة بالنسبة إلى دول المنطقة العربية أكثر من مسألة موت أو حياة!