المخطَّطات الأميركيّة المتجدّدة لتفتيت العراق
بعد أن نجح العراقيون بالقضاء على داعش واستعادة أراضيهم، قامت أميركا بخلق مشكلة جديدة لتخرّب العراق من خلالها.
منذ شهرين، مرَّ 17 عاماً على الاحتلال الأميركي للعراق العظيم وسقوط بغداد. يومها، كنت في الثالثة عشرة من عمري في الصف الثاني الإعدادي. وقد صعقت بالسّقوط المدوي والمفاجئ لبغداد، وانهيار الجيش العراقيّ بهذه السرعة الكبيرة، وهروب صدام حسين واختفائه مع أركان نظامه.
كنت أمنّي نفسي في ذلك الوقت بانتصار العراق وهزيمة أميركا هزيمة ساحقة، كما هُزمت في فييتنام في ستينيات القرن المنصرم، لكنَّ أملي خاب. وما كان يحزّ بالنّفس أن القوات الأميركية انطلقت في هجومها من دول عربية خليجية مجاورة، واعتمدت منذ دخولها إلى العراق على العملاء المقيمين في الخارج، الّذين أدخلتهم بعد الاحتلال على الدبابة الأميركية، وقامت بتسليمهم المناصب العليا في الدولة، ليكونوا شهود زور، ويشرعوا بعملية تفتيت العراق وتقسيمه إثنياً وطائفياً، من خلال مصادقتهم على دستور "بول بريمر"، الحاكم العسكري الأميركي للعراق؛ الدستور الذي مهَّد لتقسيم العراق، من خلال المحاصصة الطائفيّة التي نصَّ عليها في توزيع المناصب العليا في الدولة وإعطاء شمال العراق بالكامل للكرد.
ومنذ ذلك الوقت إلى الآن، أقام الكرد في شمال العراق ما يشبه الدويلة في أربيل والسليمانية، وأصبحوا يبيعون النفط من دون المرور بالحكومة المركزية، وباتوا قاعدة أميركية صهيونية للتآمر على بغداد. البعض يتحدث عن الدور الإيراني في العراق، ويرى أنه كان دوراً تخريبياً بعد العام 2003، ولكن هذا الكلام يجافي الواقع بدليل أن إيران، على الرغم من العداوة الكبيرة بينها وبين النظام العراقي السابق، رفضت الغزو الأميركي للعراق، ورفضت مساعدة أميركا لاحتلاله، وذلك بشهادة الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي، الذي صرّح قبل أيام قليلة من بدء الغزو الأميركي للعراق بأنّ إيران ترفض الغزو الأميركي.
وقال خاتمي إنّ إيران قدَّمت عرضاً لصدام حسين للمساعدة في التصدي للعدوان الأميركي. وبعد الاحتلال الأميركي للعراق، اضطرت إلى الدخول بنفوذها إلى المشهد العراقي، بحكم جوارها مع العراق، ولأنَّه أصبح يشكل بعد الاحتلال قاعدة خلفيّة أميركيّة لاستهداف إيران، ولكن الدّور الإيجابي الأكبر للأخيرة كان يتمثّل بالمساعدة في تأسيس الحشد الشعبي، الذي كان له الدور الأكبر في القضاء على المشروع الأميركي الداعشي، عندما سيطرت داعش في حزيران/يونيو 2014 على ثلثي مساحة العراق، وأصبحت على مقربة من بغداد.
عندها، قامت إيران، وعلى يد الفريق الشهيد قاسم سليماني، بدعم وتدريب الحشد الشعبي، الَّذي قام بعدها، وبسنوات قليلة، في العام 2018، بالقضاء على داعش وإسقاط دولته المزعومة، في الوقت الذي كان أوباما يقول في العام 2014 إننا نحتاج إلى عشرات السنوات للقضاء على داعش.
وبعد أن قام العراقيون بالقضاء على داعش واستعادة أراضيهم، قامت أميركا بخلق مشكلة جديدة لتخرّب العراق من خلالها، وكانت هذه المرة بالمشاركة مع مسعود البارزاني، الَّذي أوعزت إليه في أيلول/سبتمبر 2017 القيام باستفتاء لينفصل عن العراق. وبالمناسبة، كان مسعود البارزاني وحزبه دائماً الخنجر المسموم في خاصرة العراق، وقاعدة أمامية للتآمر عليه.
في هذا الاستفتاء الذي جرى في 25 أيلول/سبتمبر 2017، رأينا أعلام الكيان الصهيوني في أربيل، ورأينا فيلسوف الخراب والدمار بيرنارد هنري ليفي في شوارع أربيل يشجّع على إقامة الدولة الكردية، لكن الجيش العراقي عندها أحبط هذه المحاولة الانفصالية، وقام بعد أيام قليلة من الاستفتاء بعملية عسكرية استعاد من خلالها السيطرة على كركوك وطوزخرماتو وكل المناطق الغنية التي احتلَّها البارزاني وجماعته.
وكان من نتائج هذا العمل العسكري إجهاض الاستفتاء ومشروع الدولة الكردية. وبعدها، قام مسعود البارزاني بتقديم استقالته، ولكن لم يسلم العراق من المؤامرات الأميركية المستمرة، فقامت أميركا قبل أشهر بمحاولة زرع الفتن وإشاعة الفوضى في صفوف الشعب العراقي، وذلك بعد قيام رئيس الوزراء العراقي السابق عادل عبد المهدي بتبني سياسة مستقلة عن السياسة الأميركية ومحاولة النهوض بالعراق، من خلال الاستغناء عن الأميركيين، والاتجاه نحو الصين عسكرياً واقتصادياً، وإعادة فتح المعابر الحدودية بين العراق وسوريا، فاستغلت أميركا المطالب الملحّة للشعب العراقي، وذلك بدفعه إلى التظاهر، لإشاعة الفوضى والتخبّط الداخلي، وتحقَّق مبتغاها باستقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي.
ولإكمال مشروع الفوضى الأميركية في العراق، قامت أميركا، بالتعاون مع رئيس الجمهورية العراقية برهم صالح، بمحاولة الإتيان برئيس وزراء وفق الهوى الأميركي. وكما هو معروف، فإن منصب رئيس الجمهورية في العراق هو موقع شرفي. ورغم ذلك، تجاوز برهم صالح صلاحياته الدستورية، برفض أغلب المرشحين الذين رشَّحتهم الكتلة الأكبر في البرلمان، وقام في النهاية بتكليف عدنان الزرفي، لكن كتلة البناء الكتلة البرلمانية الأكبر رفضت تكليفه.
وبعد أخذ وردّ ومخاض عسير، تم الاتفاق على تكليف مصطفى الكاظمي برئاسة الحكومة، وهو خطأ سيدفع العراق ثمنه (لا قدر الله)، وتشير الكثير من التقارير إلى ارتباطه الوثيق بالولايات المتحدة. كما وردت إشارات استفهام كثيرة حول دوره في استشهاد القائدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، إذ كان رئيساً للمخابرات العراقية، وقد رحَّبت وزارة الخارجيّة الأميركيّة بتكليفه.
وفي النّهاية، لن يصلح حال العراق إلا بالتكاتف والوحدة والمصالحة الوطنية الشاملة، وتشريع دستور مدني عصري يلغي المحاصصة الطائفية المقيتة. وتبقى أهم نقطة لنهضة العراق هي إنهاء حكم جيل السياسيين الذين دخلوا على الدبابة الأميركية، فهذا الجيل لم يجرّ على العراق إلا الفساد والخراب، والاستعاضة عنه بجيل جديد من الشباب، يكون ولاؤهم للعراق فقط، حتى يزدهر، فلن تشرق شمس الأمة العربيّة إلا إذا أشرقت من العراق العظيم.