العتيبة وتقديم النّسخة الإماراتيّة من "صفقة القرن"
المقال الذي نشره العتيبة في صحيفة "يديعوت أحرونوت" هو عبارة عن النسخة الإماراتية من "صفقة القرن"، متجاوزة النسخة الصهيونية بمراحل.
من المعلوم أنّ "صفقة القرن" هي عبارة عن الرؤية الصهيونية للسلام بين العرب والكيان الصهيوني الغاصب، ليس من خلال إعادة الأراضي العربية المحتلة مقابل السَّلام - كما كان يُطرح في كلّ مبادرات السلام سابقاً - ولكن من خلال تصفية القضيّة الفلسطينيّة، وتجاوز حلّ الدولتين الّذي طرحته المبادرة العربية في العام 2002، وطرح بدائل إقليميّة أخرى منها، تشارك فيها الأردن ومصر مشاركة جيوسياسيّة، وتشارك فيها دول الخليج - وخصوصاً السّعوديّة - عن طريق التّمويل وإقامة البنى التّحتية والمشاريع الاستثماريّة.
وقد تبلورت ملامح الصَّفقة - التي سرّبتها صحف عبرية - من خلال الدراسة التي أعدَّها مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق اللواء احتياط (جيورا إيلاند) لصالح مركز "بيحن" - السادات للدراسات الاستراتيجية بعنوان "البدائل الإقليمية لفكرة دولتين لشعبين".
خلاصة تلك الدراسة أنّ حلّ القضية الفلسطينية لا يقع على عاتق الكيان الصّهيونيّ الغاصب لوحده - عن طريق إعادة الأراضي الفلسطينية وضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين - لكن تلك المسؤولية تقع على عاتق الدول العربية مجتمعة - وخصوصاً الخليجية منها - التي ينبغي لها أن تبذل جهوداً مضاعفة لرفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني من خلال الدعم الاقتصادي.
وقد أوضح مهندس الصفقة، جيورا إيلاند، أن الكيان الغاصب بات يرفض - أكثر من أي وقت مضى وبشكل واضح وصريح - فكرة اقتسام تلك المساحة الضيقة من الأراضي الفلسطينية، وخصوصاً في الضفة الغربية، من أجل إقامة دولتين لشعبين، فذلك الحل لم يعد مقنعاً بالنسبة إلى المشروع الصهيوني التوسعي، الذي يرى أن حدود دولته من النيل إلى الفرات، وهو يضرب نظرية الأمن الإسرائيلي المزعومة في مقتلها من ناحية، ويتجاهل الواقع الاستيطانيّ الحالي في الضفة الغربية، الّذي يحول دون إخلاء 290 ألف مستوطن لمنازلهم، من ناحية أخرى. وبالنسبة إليهم، ينتهك إخلاء مستوطنات الضفة الغربية الخصوصية الدينية والروحية التي تمثلها الضفة - يهودا والسامرة في التراث التلمودي - بالنسبة إلى الشَّعب الإسرائيلي.
عصا السّياسة وجزرة الاقتصاد
تعتمد الصَّفقة على سياسة العصا والجزرة، بمعنى أن الولايات المتحدة الأميركية والدول الخليجية سوف تُلوّح بالعصا من خلال ممارسة الضغوط السياسية على السلطة الفلسطينية وحركة حماس، ليوافقا على الصفقة - أو على الأقل يوافق أحدهما عليها - مع التلويح بجزرة الوعود الاقتصادية الكبيرة التي ربما تجدي نفعاً إذا لم تنفع عصا السياسة.
أولى تلك الملامح وأهمها هو الملح الاقتصادي الذي يراد له أن يكون بديلاً من الحل السياسي، من خلال ما طرحته الخطة، وهو ما أعلن عنه بشكل واضح وصريح جاريد كوشنر - صهر الرئيس ترامب وكبير مستشاريه في البيت الأبيض خلال ورشة المنامة المنعقدة في 26 حزيران/يونيو 2019م - عن تمويلٍ للخطة بواقع 50 مليار دولار لمدة 5 أعوام، تساهم فيها الولايات المتحدة بواقع 20%، والاتحاد الأوروبيّ بنسبة 10%، والدول الخليجية بنسبة 70%، بناءً على مداخيل كل دولة من أموال بيع النفط السنوية، أي أن الدول الخليجية، مع الأسف الشديد، هي التي باعت القضية الفلسطينية، وهي الَّتي دفعت ثمن ذلك البيع.
وأخطر ما تروّج له الصفقة المشبوهة هو الاعتراف بعبرية الدولة الصهيونية، باعتبارها دولة لكل يهود العالم، وهذا يعني حرمان العرب المتواجدين في الأراضي المحتلة من أبسط الحقوق.
أما بالنسبة إلى ملفّ التطبيع مع العدو الصهيوني، فإن الصفقة تؤتي الجانب الإسرائيلي كل ما ينشده، وهو مجانية التطبيع بينه وبين الدول العربية، ذلك أنّها تشترط بدء التطبيع مع الكيان الغاصب قبل توقيعها، تشجيعاً له على قبولها والتوقيع عليها.
يأتي هذا الأمر بخلاف كل اتفاقيات السلام الموقعة بين العرب والكيان الغاصب، والتي كانت ترى التطبيع نتيجة تالية لتلك الاتفاقية، لا مقدّمة لها، وهذا فعلاً ما تقوم به الآن بعض الكيانات الوظيفية في الخليج، من خلال التطبيع المجاني لأجل التطبيع، وإرضاء الجانب الأميركي.
كما أنّ "إسرائيل" ضمنت من خلال تلك الصفقة عدم الحديث عن ملفّ اللاجئين، الذي يعتبر بالنسبة إليها من أخطر الملفات المتعلقة بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني، لأنه يرتبط بمسألة الصراع الديمغرافي.
ويرجع السّبب، من وجهة النظر الإسرائيليّة، إلى أنّ غالبية الشّعب الفلسطيني لاجئ، وأن مسألة اللجوء ترتبط بكل بيت وشارع وقرية ومدينة فلسطينية، وهو ما يجعل من حقّ العودة للمهجرين قسراً شرطاً لأي عملية سلام. كما أن المكوّن الرئيسيّ لأصحاب القرار الفلسطيني - سواء السابقون أو الحاليون – يعدّ من أبناء اللاجئين، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن الرئيس السابق ياسر عرفات، والحالي محمود عباس، وأحمد ياسين، وفتحي الشقاقي، وعبدالعزيز الرنتيسي، ومحمد دحلان، وإسماعيل هنية، هم من أبناء اللاجئين.
العتيبة والبديل عن حل الدولتين
تتعامل أميركا و"دولة" الكيان الغاصب مع بعض حكام الأنظمة الخليجية باعتبارهم أوراق "كوتشينة" في لعبة التطبيع مع الشعوب العربية، وتعتبر تلك الأنظمة أوراقها الرابحة، فتستخدم الورقة المناسبة في الوقت المناسب. وتُعتبر الورقة الإماراتية الآن الجوكر التي يمكن أن يربح بها الكيان الغاصب معظم الأوراق في "صفقة القرن" المشبوهة.
المقال الذي نشره العتيبة في صحيفة "يديعوت أحرونوت" هو عبارة عن النسخة الإماراتية من "صفقة القرن"، متجاوزة النسخة الصهيونية بمراحل. وتحاول الإمارات من خلال تلك النسخة أن تهرب إلى الإمام من سلسلة الإخفاقات التي رافقت خطوات محمد بن زايد الصبيانية، وخصوصاً هزيمته في اليمن ونفوق حصانه الأسود في ليبيا، في سباقه المحموم ضد قطر وتركيا، والذي انتهى بسقوط حفتر.
أمام تلك الإخفاقات للشخصية الكرتونية في أبو ظبي، والتي تُحرّك على غرار أفلام الأنيميشين، كان لزاماً أن تعتلي أبو ظبي طاولة التطبيع المجاني، بعد أن ظلّت لسنوات تطبّع سراً، ومن تحت الطاولة، لتثبت أمام الراعي البريطاني والأميركي أنها لا زالت الجوكر، من خلال محاولتها بعث الحياة مرة أخرى في "صفقة القرن" - التي ولدت خارج رحم السياسية وماتت قبل أن توجد، من خلال إجماع الفصائل الفلسطينية على رفضها - ومن خلال النسخة الإماراتية التي تجاوزت الرؤية الصهيونية بمراحل، وأثبتت أن أبو ظبي هي الحليف الاستراتيجي للكيان الغاصب في السر والعلن، بحسب وسائل الإعلام الصهيونية.
موقف العتيبة يمثل كيّاً ممنهجاً للوعي العربي والفلسطيني، ونقلاً للخلاف من الكيف المرفوض إلى الكم المقبول. وهنا مكمن الخطورة من النسخة الإماراتية لـ"صفقة القرن"، لأنها جعلت التطبيع أمراً واقعاً، من خلال ربطه بمسألة ضم أجزاء من الضفة الغربية فقط، وهذا يعني أن التطبيع سوف يصبح سارياً إذا امتنعت "إسرائيل" عن ضم أجزاء من الضفة، وهو بالنسبة إلى الكيان والإمارات وبقية جوقة التطبيع الخليجية لا يزال سارياً، سواء ضمّت "إسرائيل" أجزاء من الضفة أو لم تفعل، لأن التطبيع بالنسبة إلى تلك الكيانات جزء من الأدوار الوظيفيّة التي تؤدّيها، وجزء من كينونتها وبقائها على قيد الحياة السياسيّة.
وتأتي تصريحات أنور قرقاش في 17 حزيران/يونيو 2020 أمام مؤتمر اللجنة اليهودية الصهيونية، بضرورة التواصل العلني بين بلاده وبين العدو الصهيوني، وكذلك التعاون في مجال مكافحة فيروس كورونا، لتضع نقاط العمالة الإماراتية على حروف التطبيع مع الكيان الغاصب، وتثبت للجميع أن أبو ظبي هي الخنجر المسموم في خاصرة القضية الفلسطينية منذ عقود مضت، والوكيل الحصري للكيان الصهيوني الغاصب في المنطقة العربية.