الذي كان دائماً: الشّاعر الأعلى من الشّعراء شنقاً
لأنَّ محمود درويش كان من فلسطين، وتمثَّلها شعراً ونثراً وخيالاً ووعياً، فقد صار في أعاليها المستدامة أيقونة في القول والنشيد والرؤية والموقف.
بمقدار ما صعد محمود درويش بالقول عن فلسطين نحو تخوم المطلق، كانت فلسطين تأخذ بيده وبقوله - كالعادة - على نحو كريم، كي يشيّد مقامه العالي في مجازاتها الفسيحة التي لا يضاهيها مجاز أرضيّ أو تاريخيّ على الأقل.
هنا، يتعيَّن على الفلسطينيين حصراً أن يدركوا الفارق الشفيف، ويدرّبوا أنفسهم عليه أيضاً، وهو فارق حاسم إلى حد كبير بين أن يكون المرء من فلسطين ولها قولاً وفعلاً وتمثلاً، وأن يكون فلسطينياً من خلال الانتساب إلى المكان. أن تكون من فلسطين يعني بالقوة أنك محظوظ، وترتقي وتنال مجد الانتماء إلى حيّز جغرافي رمزي تاريخي سماوي، تشكّلت سيرته وكأنه آية ألقاها الله في الزمن والوجود والتاريخ، واختارها كي تكون أرضاً للرسالات الكبرى، ومسرحاً لعصف التاريخ ومجده في آن، فهنا، في مسرحها وبسببها، يقيم التاريخ مآتمه الكبرى ويقوم مجده.
وفلسطين، بصفتها تلك، كانت المكان الوحيد والفريد على ظهر البسيطة الَّذي تنتمي إليه حشود من الناس حتى الاعتقاد به والموت لأجله، وينامون على يقين بأنهم منه وأنه لهم، وإن لم يولدوا فيه أو لم يسبق لهم أن لمسوه يوماً لمس العين واليد. هذا التمثل العظيم لمكان محدّد بالذات، مزدحم بكلّ هذه المعاني، هو اصطفاء وقدر عظيم، ما كان له أن يكون من دون تكاليف باهظة في الزمن.
أما أن تكون فلسطينياً بالنسبة إلى المكان من دون استلهام معانيه كما يليق به، فهذا يعني أن تكون كائناً عادياً وربما أقل، إلا إذا ارتقيت نحو أن تكون من فلسطين. لذلك، هناك تصنيف غير معلن عنه لمن هم فلسطينيون بالمولد: فإما أن يكونوا من فلسطين وإما أن يكونوا فلسطينيين. وأن يكون المرء فلسطينياً، فهذا يعني أن يخطئ ويقصّر وتكون له شوائبه.
قبل أن تترجّل روح محمود درويش نحو السماء، ترك لنا وصيته العاتية القاسية، عندما قال: "كم كذبنا عندما قلنا: نحن استثناء". فلسطين ومن يتمثلها ومن يستلهم معانيها هم الاستثناء، وليس مطلق الفلسطينيين بالولادة.
عند الصّعود نحو نشيد درويش وقوله، كنا نجد أنفسنا في الحيز العالي لفلسطين. لقد سمى بالقول من أعلى فأعلى. وعند تداول درويش كإنسان، كنا نجد ما يَسُرّ وما لا يَسرّ، لكن جلالة النشيد وعلوه وتعاليه المعمد بفلسطين كان يشفع له في ما لا يسرّ، وهذا طبيعي.
لم يعلن محمود درويش يوماً عن نفسه كإنسان كامل، ولو أتيح له ذلك لما اختار أن يكون كذلك. لقد كان يرغب في أن يكون إنساناً مع ما تيسّر من أخطاء. فلسطين عنده هي المطلقة والمقدّسة، ومن يطاول معانيها، أياً كان، شهيداً أو كاتباً أو أحد أبسط الناس، أو ولد فيها أو لم يولد، أو كان من هنا أم من هناك، هو الّذي يرتقي ويتفوّق بوعيه وخياره ووجدانه وموقفه نحو حيز البطولة والتميز، مع ما يتطلّبه ذلك من مغادرة للشوائب. إن فلسطين هي الاختبار الآجل للطهارة والتطهر، منذ ما قبل وما بعد الإعلان السماوي الحاسم الذي قال: جفَّت الأقلام ورُفعت الصّحف.
أن يكون لمحمود درويش بنت من علاقة سريّة، هو أمر من الاحتمالات الإنسانيّة الممكنة له ولغيره، إن أيّدتها وقائع وليس روايات، وأن يفضي بهذا السرّ لسليم بركات مثلاً، فهو أمر وارد، وهو بالقدر نفسه غير وارد، إذ يمكن أن يكون الأمر أيضاً من نسج خيال لئيم على ذاته أولاً، قبل أن يكون لئيماً على درويش. وسليم بركات في هذا الشأن هو واحد من ثلاثة: إما أنه إنسان لم يكن صالحاً للائتمان على سرّ، أو إنسان تصاغر إلى حدّ الهوان، لو تبيَّن أنّ الأمر مفتعلاً، أو غافل يستحق الرثاء من دون شفقة، لو أن جهة ما استغلت لحظة تخلٍ حصلت لديه، وفقاً للموروث الدرزي في معنى التخلي، أو يمكن أن يكون الثلاثة معاً، ويكون خاسراً كبيراً لشيء ثمين.
وبمناسبة سليم بركات الذي كان أثيراً مدللاً عند محمود درويش، وأوسع له في صدر نصه وحرمه فصلاً هو من أرفع الفصول التي قالت الكردي في شعر مصفى من الضغائن: "ليس للكردي إلا الريح.. تسكنه ويسكنها". يحق لنا أن نوجّه فصلاً من العتب يتضمن لوماً قاسياً، نرفعه إلى درويش حيث هو في ملكوت ربه وعهدته، بأنه أصاب قليلاً وأخطأ كثيراً في اختيار أصدقائه المقربين وحوارييه. وبمقدار ما كان من فلسطين نصاً وموقفاً، إلا أنه كان فلسطينياً في اختيار أصدقائه أكثر مما اختارهم من منظور فلسطين.
ومحمود درويش المحظوظ بأشياء كثيرة تزوّج لبرهة من دمشقية تنحدر من أعالي جميلات العرب كياناً وأصلاً، وكان متاحاً له أن يقترن من حشد من جميلات العرب والعجم، إلا أنه لا يصنف نفسه كزوج وشريك جيد. ولرجل كان يخفي داخل حيائه العميق وخجله الأولي نرجسية مروعة تبلغ حد الطغيان، فإن الاعتراف بأنه زوج أو شريك غير جيد يحسب له.
ما هو حري بالتوقف عنده في علاقة محمود درويش بالمرأة، زواجاً أو عشقاً، هو الهلع الذي كان يسكنه من الأبوة إلى درجة الفوبيا، وهذه مسألة تتطلب التأمل فيها وتقديرها كما يجب. ورغم هروبه من الأبوة بمعناها المباشر، فقد صار بالاختيار ورغماً عنه في آن، أباً أعلى للقول الباقي، وأحد كبار آباء فكرة فلسطين، مع حشد سيبقى أثرهم إلى أبد.
فلسطينيون كثر، أغلبهم لا يعرفون محمود درويش شخصاً ونصّاً وأثراً، هاجموا سليم بركات دفاعاً عن درويش. وكالعادة، خذلوا الفطنة التي كان عليهم أن يتبعوا تعاليمها، وكان عليهم أن يناقشوا ويتأملوا في أمرين بمناسبة ما قاله الشقي سليم بركات: الأول مفهوم محمود درويش للأبوة، والآخر من هو المستفيد مما قاله بركات. لقد غرق أغلبهم في سطح اللحظة وتركوا أعماقها.
في حياة أي جماعة، هناك رموز وآباء كبار تقاس أحجامهم بأدوارهم ومعانيهم وآثارهم وسريانهم في الوعي والوجدان والزمن. ومحمود درويش، بما له وما عليه، من أصحاب المكانات المرموقة في حيز رموز فلسطين، غير أن حياة الرموز وتفاصيلها ويومياتها لا يجب أن تبقى في حيّز المقدس، فمكانها الأنسب هو طاولة التأمل والنقاش. هذه المسألة لم يتعرف إليها الوعي الفلسطيني، ولم يتصالح معها ومع مفارقاتها. لذلك، ظلّ وعياً قاصراً ومقصّراً وعاثراً في كل نحو، بما في ذلك إدراكه الفرق بين رمزية الدور والأثر لكباره وحقيقة صاحب هذه الرمزية في الواقع.
إنَّ رمزية محمود درويش في حيّز فلسطين وزمنها لا يطالها سأم. أما حياته، فيجب أن تكون موضوعاً لقراءة معنيّة عالية ومرموقة.
أما سليم بركات، فقد قضى مجازاً على نحو بائس، وخرج من ريح الكرد، ومعهم العرب والعجم، كما تجلَّى في جمال مقاربة درويش المزدحمة بمأساوية الإنصاف.