نكوص القوّة الناعمة في أميركا وصعودها في الصّين
يقول الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر: "الولايات المتحدة أنفقت تريليونات الدولارات على الحروب في السنوات الأخيرة، بينما استثمرت الصين في مشاريع مثل السكك الحديدية فائقة السرعة التي تعود بالنفع على شعبها".
لن تنهار أميركا اليوم. لا يزال لديها عمر مديد، وإن كان غير أبدي، فعمر الإمبراطوريات البحرية الكبرى في نشوئها وحيويتها حتى أفولها، لا يمثل حالة فجائية طارئة، وخصوصاً أن أميركا لا تزال تحمل تراكمات النظريات الاجتماعية السياسية الحديثة، ولم تظهر قوة منافسة لها تحمل هذا الإرث بعد، وإخفاق العقود الأخيرة يتمثل في توقّف التدفّق المعرفي الاجتماعي السياسيّ تحت مزاعم الوصول إلى نهاية التاريخ وصدام الحضارات، وهنا تكمن المشكلة.
أميركا تريد أن تتنفّس
لقد خرج الأميركيون الملوّنون مع كتلة لا بأس بها من الداعمين البيض ضد عنصرية متأصّلة في أجهزة الأمن الفيدراليّ، تتوارى خلفها عنصريَّة مجمَّلة ببعض الألوان في النخبة السياسية الحاكمة، تنبو عنها ممارسات عنصرية خارج الأراضي الأميركية، لكنَّ ترسانة الماكينة الإعلامية الجبارة كانت تقف حاجزاً مانعاً ضد وصول ما تعيشه شعوب الأرض المتضررة من السياسات التعسفية تجاه مجتمعات الدول التي لا تسير في ركب السياسة الأميركية، حتى إنّ المرء منا يخال أن السياسة الداخلية في أميركا لا تقدّم لمواطنيها إلا ما هو جيّد ومفيد، إلى درجة أنهم باتوا غير معنيّين بما يجري خارج الأراضي الأميركيّة.
قد يتساءل المتابع: ما الجديد الذي أفرز هذا الانفجار في قلب المركز الليبرالي الغربي، في الوقت الذي روّجت الدعاية الأميركية على مدى 3 عقود لنهاية التاريخ وانتصار النموذج الليبرالي الديموقراطي الأميركي، ولتدخّل أميركا في صدام مع الحضارات الأخرى لعولمة ديموقراطيتها؟
محفّزات القوة الناعمة في الصراع الإيديولوجيّ
لقد منح صراع الأفكار بين العملاقين الكبيرين (الشيوعي السوفياتي - والأميركي الليبرالي الرأسمالي) كل عوامل التطور والتقدم لأميركا. آنذاك، لم تكن السياسة الأميركية تستطيع تجاهل كمّ الأفكار اليسارية الضخم الذي مثَّل حالة اختراق شرقي كبير بالقوة الناعمة للغرب الليبرالي عموماً، فواجهته بسياسة مزدوجة، فمن جهة، تأخذ بوسائل القوة الصلبة وأدوات عنف الدولة لمواجهة أي توجهات يسارية، وهي تراكمات لا تزال حاضرة في الدعاية السياسية لماكينة الحملات الانتخابية الأميركية دائماً، نجدها في الاتهامات اليسارية للمرشح الرئاسي بيرني ساندرز في دورتين انتخابيتين متتاليتين، على الرغم من أنه لا يحمل توجهات يسارية، وإنما يمثل حالة إصلاحية رأسمالية كينزية ليس إلا.
ومن جهة ثانية، تأخذ بوسائل القوة الناعمة المضادة، حيث أثرت صراعات الأفكار، توجهاً نحو تطوير الأفكار الاجتماعية السياسية الليبرالية باتجاه تقوية دور الدولة، وتوجيه التراكم الرأسمالي لتحقيق مكتسبات اجتماعية لعموم المواطنين الأميركيين، أو أي منضمّ جديد إلى هذا المجتمع المتنامي، وهو ما يتآكل حالياً على وقع تغوّل الرأسمالية واعتماد ديناميات الاستقطاب الشعبوي التي تنحو بأميركا نحو فاشية جديدة.
مع اختفاء العدوّ المحفّز للتقدّم والتطوّر الاجتماعي، تلاشت أدوار القوة الناعمة، وتعرَّت أدوار القوة الصلبة في حروب أميركا الجديدة من أفغانستان إلى العراق، وتدخّلاتها العنيفة بشكل مباشر أو غير مباشر في ليبيا وسوريا واليمن.
تعرّي القوة الصلبة الأميركية وصعود القوة الناعمة الصينيّة
أعلنت حكومة جورج بوش الابن في العام 2001 عدواً هلامياً لها مسيطراً عليه، هو الإرهاب القاعدي المصنوع أميركياً، باعتراف وزيرة الخارجية السابقة والمرشحة الرئاسية هيلاري كلينتون، التي قالت: "الذين نقاتلهم اليوم أوجدناهم منذ 20 عاماً. فعلنا ذلك لأننا كنَّا مشغولين بالصراع ضد الاتحاد السوفياتي الذي غزا أفغانستان، ونحن لا نريد أن نراه يسيطر على آسيا الوسطى".
هذا العدوّ شكَّل المبرر المستحدث لتواجد القواعد العسكرية في الشرق الأوسط، واستخدمت أميركا في مواجهته وسائل القوة الصلبة، فهو عدوّ لا يحمل محفزاً مولداً لتطوير قوة ناعمة، في حين نجد في المقابل أن الصين استنهضت قوتها الناعمة لمد نفوذها في آسيا وأفريقيا وأوروبا في زمن كورونا، وتتوق إلى توسيع مشروع إحياء طريق الحرير الجديد "مبادرة الحزام والطريق"، ليصل إلى أميركا اللاتينية - الحديقة الخلفية لأميركا. يقول الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر: "الولايات المتحدة أنفقت تريليونات الدولارات على الحروب في السنوات الأخيرة، بينما استثمرت الصين في مشاريع مثل السكك الحديدية فائقة السرعة التي تعود بالنفع على شعبها".
لم تنفع محاولات ترقيع الرداء النخبوي العنصري بإيصال باراك أوباما ذي الأصول الأفريقية إلى سدة الرئاسة، فسرعان ما أدت الحروب الأميركية على مساحة العالم إلى ذوبان تأثير كتلة النتاج المعرفي الاجتماعي السياسي، وفاقمت جائحة كورونا الوضع، فأسفرت عن انتكاسات اقتصادية واجتماعية قاسية على المجتمع الأميركيّ كشفت له هذه الحقيقة المرّة.