الجزائر من صفر خصوم إلى حسم الخيارات الاستراتيجية.. الحسابات تغيّرت
رسالة لا تخطئها عين بصير؛ لقد تغيّرت الجزائر، وتغيّرت معها حساباتها وتحالفاتها. والسؤال: هل دخلت العلاقات الجزائرية الفرنسية مرحلة الجفاء؟ وهل سيصل الأمر إلى القطيعة؟
تطرح الإشارات المتناثرة الصادرة عن السلطة الجزائرية، لجهة الملفات الخارجية، الكثير من الأسئلة أكثر مما تقدم من إجابات، ولعله تكتم وغموض مقصودان.
بالتدرج، وعلى جبهات متباينة، تتضح ملامح توجه سياسي يبحث عن دور جزائري أكثر فاعلية وتأثيراً على المستوى الإقليمي والدولي. وجاءت المقترحات التي تتضمن التخلي عن عقيدة تجريم إرسال قوات من الجيش الجزائري إلى خارج الحدود، لترسم الإطار الَّذي تتحرك فيه التوجهات العامة لصانع القرار الجيوسياسي في البلاد.
لم يعد سراً أن الرئيس عبدالمجيد تبون يضع على رأس أولوياته ترتيب العلاقة مع باريس، ولعله كان واضحاً في ذلك منذ البداية. في 13 كانون الأول/ديسمبر المنصرم، أي في اليوم الموالي لإجراء الانتخابات الرئاسية في الجزائر، وبعد ساعات من إعلانه فائزاً، وحتى قبل ترسيم فوزه، وجّه تبون رسالة مباشرة إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حين تعهّد له بأن العلاقات بين البلدين ستقوم على مبدأ "العين بالعين".
وعلى مدار الأشهر الأربعة الماضية، لم ترسل الدبلوماسية الجزائرية أي رسالة إيجابية، حتى على سبيل المجاملة، تجاه باريس، بل إنَّ لهجة التصعيد تدحرجت من انتقاد خطابات بعض الساسة أو الإعلاميين وتصرفاتهم، مروراً إلى التلويح بقطع العلاقات على خلفية واقعة قناة "فرانس 24"، وصولاً إلى إجهاض صفقة شركة "توتال"، والتوجه إلى عدم تجديد عقد الشركة الفرنسية المسيّرة لميترو الجزائر.. رسالة لا تخطئها عين بصير؛ لقد تغيّرت الجزائر، وتغيّرت معها حساباتها وتحالفاتها.
والسؤال هنا: هل دخلت العلاقات الجزائرية الفرنسية مرحلة الجفاء؟ وهل سيصل الأمر إلى القطيعة؟
الدكتور مصطفى صايج، المختص في العلاقات الدولية ومدير المدرسة العليا للعلوم السياسية، أكد للـ"الميادين نت" أن العلاقات الجزائرية- الفرنسية تسير دائماً باتجاهين متناقضين؛ اتجاه الذاكرة وجرائم الاستعمار الفرنسي، واتجاه ترابط المصالح.
ورغم الخطوات المحتشمة من الرئيسين الفرنسيين السابق والحالي، فرانسوا هولاند وإيمانويل ماكرون، لتجاوز سياسة تمجيد الاستعمار التي تبنّاها ساركوزي، فإن الجرائم الاستعمارية الفرنسية لا تزال عالقة، مثل التجارب النووية في الصحراء الجزائرية واسترجاع الأرشيف الوطني.. كل ذلك يبقى مرهوناً بقوة النظام السياسي الجزائري في الداخل، الذي يجب أن يوظف عناصر المصلحة لصالحه، لكي نصل إلى القرارات الفرنسية نفسها التي اعترفت بجرائمها ضد اليهود والأرمن.
وفي ما يخصّ الاتجاه الثاني، فهو مرتبط بتبادل المصالح، إذ تبقى غير متوازنة، بنظرة فرنسية إلى أن الجزائر سوق وفرص لشركاتها التي تعرف أزمات مالية في الداخل، وقد ساهمت في تمركز البنوك الفرنسية لتسهيل الارتباط المالي والعمل مع الدائرة المالية المرتبطة بها.
ومن الناحية الجيوسياسية، تبقى فرنسا معارضة بـ 180 درجة للمصالح والقضايا الحيوية للجزائر عبر حدودها، الصحراء الغربية وليبيا ومالي. وفي كثير من الأحيان، توظف النزاع مع المغرب لصالحها، وهو الأمر الذي يضع العلاقة بين البلدين تحت عنوان "الأزمة" دائماً.
الدكتور نسيم بهلول، خبير الدراسات الاستراتيجية والأمنية وصاحب كتاب "العقيدة العسكرية الجزائرية/القيادة والاستراتيجية في قرن يتسم بالخطورة"، يقول في تصريح "للميادين نت" إن العلاقة بين الجزائر وفرنسا أكثر تعقيداً من الصورة التي تتبدى عليها في العلن، وخصوصاً في الظرف الحالي، ذلك أن باريس تتحرك ضمن ما يسميه الدكتور بهلول "المثلث الهجين"، الذي يضم كلاً من فرنسا والإمارات في الواجهة، والكيان الصهيوني في المشهد الخلفي، والذي يؤثر بشكل فاعل في مصالح هذا التحالف الثلاثي وقراراته.
ويعتقد الدكتور بهلول أن السلطة الجزائرية تجمعها علاقات مركّبة مع فرنسا والإمارات، ولكن الموضوع ليس بتلك البساطة للحديث عن مواقف حادة وراديكالية تستطيع أن تقوم بها الدبلوماسية الجزائرية، لكن، يضيف الدكتور بهلول، تعلم أبو ظبي وباريس جيداً أن مساحة المناورة تتوقف عند حدود بعض المرونة في قضايا ومصالح اقتصادية، لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال الاقتراب من المحرمات الدبلوماسية الجزائرية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
أما الدكتور خالد معمري، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الجزائري، فيرى أنّ الأمر لا يقف على التصعيد الدبلوماسي والسياسي، إنما يقترب من أن يكون حالة إدراكية جديدة في العقل السياسي الجزائري، فرضتها أساساً تحولات السنة الأولى من الحراك، فحجم التطلعات الشعبية، وحتى الرسمية اليوم، يجب أن تتجاوز حدود العلاقات مع فرنسا، القائمة منذ الاستقلال على أسس نمطية فرضتها الخلفية التاريخية الاستعمارية.
الصين الشقيقة.. تحوّل تاريخي أو ترتيب أوراق مبعثرة؟
وعلى نقيض التوتر الّذي تشهده علاقات الجزائر مع فرنسا، ظهر في قاموس الدبلوماسية الجزائرية في الأشهر القليلة الماضية مصطلح دولة "الصين الشقيقة". الرئيس تبون، وفي أحد حواراته التلفزيونية، قال إن الجزائر تجمعها بالصين علاقات أخوية حميمة، والثابت أنّ قوة محور الجزائر- بكين ليست وليدة فترة حكم الرئيس تبون، أو حتى سلفه بوتفليقة، فالعلاقات الجزائرية الصينية في شقّها السياسي تمتدّ إلى أيام الثورة التحريرية.
وفي هذا السّياق، يعتبر الدكتور مصطفى صايج أنه بالنسبة إلى الصين، فإن العلاقات السياسية التاريخية، باعتراف بكين بأول حكومة جزائرية مؤقتة، وتصويت الجزائر لصالح عودة الصين إلى الأمم المتحدة، ومساندة القصايا التحررية، ساهمت في إرساء علاقات استراتيجية متميّزة، آخرها توقيع الجزائر على الاندماج في مبادرة الحزام والطريق التي تراهن عليها الصين، باعتبارها بوابة أفريقيا وحلقة وصل بين ضفّتي المتوسط.
وقد اتَّضح اتّساع السّيطرة الصّينية على مشاريع البنية التحتيّة الكبرى التي تقيمها الجزائر في العشرية السابقة، الطريق السيّار، المطار الدولي، ملاعب كرة القدم، والمشاريع السكنية. وعليه، أضحت الصين المنافس الأكبر للفرنسيين في الاستثمارات والمشاريع، والذين لم يحسموا بعد عقدة النيوكولونيالية.
ويرى الدكتور خالد معمري أنه بعد حراك 22 شباط/فبراير، والانتخابات الرئاسية الأخيرة، وتزامن ذلك مع تداعيات الملف الليبي، أصبحت الضرورة ملحّة لإعادة هندسة جديدة للأحلاف الإقليمية والدولية بالنسبة إلى الجزائر، وخصوصاً مع تزايد مكانة الصين في المجتمع الدولي، وسعيها المستمر للتحول من القوة الاقتصادية إلى القوة السياسية الأولى في العالم، إضافةً إلى محاولات روسيا الدائمة للعودة إلى نظام تعددي الأقطاب.
كلّ ذلك يجعلنا أمام فرصة تاريخية لصناعة سياسة خارجية فاعلة، انطلاقاً من محاور استراتيجية وحتى اقتصادية جديدة.
وماذا عن ورقة إرسال قوات من الجيش الجزائري إلى خارج الحدود؟ وأي رسالة منها؟
عن هذا التساؤل، يقول الدكتور خالد معمري للـ"الميادين نت" إن ما قدم حتى الآن هو مسودة دستورية أولية للنقاش، إلا أنها ستثير الكثير من الجدل الأكاديمي، وحتى الشعبي، عندما يتعلق الأمر بالتناول الدستوري لمؤسسة الجيش الشعبي الوطني، لما تتميز به من خصوصيّة في المخيال المجتمعي من جهة، ولمحوريتها في مسار التحولات منذ بداية الحراك الشعبي من جهة ثانية.
لذلك، يبدو أن التوجه الجديد لصانع القرار الجزائري يتمثل في بلورة استراتيجيات أمنية على المستوى الإقليمي خصوصاً، تتناسب ومكانة هذه المؤسسة، في ظل القناعة المتزايدة بحالة اللايقين في النسق الدولي، فاليوم، وحتى مع جائحة كورونا، لم يعد هناك إجماع حول هيكلية النظام الدولي الأحادي، في مقابل التوجه نحو تعددية جديدة تتيح المساحة الاستراتيجية لبروز فواعل وقوى إقليمية ودولية جديدة، أو ما يطلق عليه في نظريات السياسة الدولية بالفواعل الجديدة التصحيحية. من هنا، يمكن تفسير المسعى الجزائري في استثمار هذه التحولات.
لكن يجب التنبيه إلى مسألة في غاية الخطورة، وهي صعوبة تحديد خطوط التماس بين التطلعات الاستراتيجية الخارجية من جهة، وعقيدة عدم التدخل من جهة أخرى، يضيف الدكتور معمري، وهو ما يفرض قيوداً أكثر على مؤسسة الجيش، الأمر الذي يجب أن تأخذه النسخة النهائية للدستور بعين الاعتبار.
قراءة الدكتور مصطفى صايج لهذه النقطة تبدو مختلفة نسبياً عن مقاربة الدكتور معمري، فهو يرى أنّ العقيدة العسكرية الجزائرية لن تتغيَّر في ثوابتها الأساسية، بعدم التدخل في النزاعات الإقليمية عسكرياً والاعتماد على الآلية الأممية لتسوية النزاعات بالطرق السلمية.
رغم ذلك، فالتركيز الجزائري سيكون على الدعم اللوجيستي لآليات فضّ النزاعات المسلّحة، وهو ما قدَّمته الجزائر في السابق في إطار الاتحاد الأفريقي، مع الاستعداد للمساهمة في بناء الجيوش الوطنية، لما تملكه من مدارس حربية للتكوين القاعدي والضباط، كما أن مشاركة الجزائر في المشاريع الأمنية، والحوار الأطلسي المتوسطي، أو مجموعة 5 زائد 5 لغرب المتوسط، أو مشاريع بناء قوات في شمال أفريقيا في إطار الاتحاد الأفريقي، تؤشر كلها على الاستمرارية في التعاون الأمني والعسكري، بما يخدم العقيدة العسكرية الرافضة لسياسات التحالفات والمحاور التي تغلّب المصالح والأنانيات على حساب مصالح شعوب المنطقة، كما هو الحال في ليبيا وسوريا واليمن.
المشكلة بالنّسبة إلى الأدوار التي تقوم بها الجزائر، أنها وقفت على الحياد، الأمر الذي كلّفها في الفترة السابقة إبعادها من أية وظيفة دبلوماسية تمسّ مصالح القوى المتناقضة. وأشير هنا إلى الفيتو الأميركي بالنسبة إلى تعيين رمطان لعمارة كمبعوث الأمم المتحدة في ليبيا، بضغط عربي فرنسي، والذي له مصالح في ليبيا.
ومهما يكون الأمر، ورغم التباين في قراءة نسق الخطوات في التحرك السياسي الأمني والاستراتيجي الذي تنتهجه الجزائر، فإنّ ملامح مرحلة جديدة تريدها الدبلوماسية الجزائرية لدور جديد عنوانه الاستثمار في رصيد التاريخ، وأهمية الجغرافيا، من خلال الخروج من لعبة تدوير الزوايا ونظرية صفر خصوم، إلى حسم خياراتها الاستراتيجية، لأنّ التحديات السياسية والاقتصادية والجيوسياسية لا تترك مجالاً لترف البقاء على قارعة التحولات التاريخية الكبرى التي يشهدها عالم ما بعد كورونا.