لبنان بين التغيير المحتمل والضّغوط الأميركيّة

 مما لا شكَّ فيه أن الولايات المتحدة تسعى إلى ضرب النموذج اللبناني، فهي لا تريد أن تستمر شعلة المقاومة كنموذج لتحرر الشعوب، ويقلقها التنوع الديني الذي يناقض مسعى "إسرائيل" لإقامة دولة يهودية.

  • لبنان بين التغيير المحتمل والضّغوط الأميركيّة
    التظاهرات اللبنانية في وسط بيروت

منذ نشأته في مطلع القرن الماضي، لم يخرج لبنان من دوامة الصراع الطائفي الذي تعمّق منذ العام 1860، ولم يتمكَّن من تحقيق الاستقلال عن الإرادة الخارجية، رغم مساحة الحريات وقلة الديموقراطية بفعل نظامه القائم على التمييز بين أبنائه.

في ستينيات القرن الماضي، تقدَّم الرئيس فؤاد شهاب خطوة في بناء المؤسسات، ما لبثت أن تهشّمت وتراجعت بعد الحرب الأهلية، لتكون صورة مصغّرة عن النظام العقيم، فيما عمَّقت الحرب التي راح ضحيتها زهاء 250 ألف قتيل الانقسام الداخلي بين مختلف مكوناته.

وفي تسعينيات القرن المنصرم، أدت التحولات الدولية والإقليمية التي ترافقت مع إطلاق عملية التسوية بين العرب والاحتلال الإسرائيلي إلى تحقيق تسوية "الطائف" بإرادة لبنانية لبنانية، وبتوافق عربي ودولي، فأوقفت الحرب، وحسمت وثيقة الوفاق الوطني نهائياً أن لبنان عربي الهوية والانتماء، وأكدت الشراكة الوطنية وفق آليات دستورية تسمح بالانتقال من النظام الطائفي إلى الدولة المدنية، وأكدت حق لبنان بـ"اتخـاذ كافـة الإجـراءات اللازمـة لتحریـر جمیـع الأراضـي اللبنانیـة مـن الاحـتلال الإسـرائیلي، وبسـط سـیادة الدولـة علـى جمیع أراضیها".

وانطلاقاً من هويته وانتمائه العربي، أكد الدستور "العلاقة الأخوية بين سوريا ولبنان، التي تستمد قوتهـا مـن جـذور القربـى والتـاریخ والمصـالح الأخویـة المشـتركة".

 ولأسباب خارجية تتقاطع مع مصالح قوى داخلية، لم يُطبق اتفاق الطائف الذي أصبح اليوم الدستور التي تحكم بموجبه البلاد، بل انهارت كل مقومات بناء دولة المواطنة لصالح الشخصانية والزبائنية، بعد ضرب هيبة القضاء واستقلاليته، وتكريس مفهوم المحسوبية على قيم النزاهة والشفافية، وسقطت معها إرادة الشعب في تشكيل السلطة، من تشريعية وتنفيذية وقضائية، بقوانين انتخابات معلبة.

وقد راكمت حكومات ما بعد الطائف، بفعل الهدر والفساد، مديونية تجاوزت مئة مليار دولار. في المقابل، كان الشعب اللبناني يراكم بتضحياته ومقاومته انتصارات شكلت علامة فارقة في تاريخ الصراع مع العدو الإسرائيلي، وبات نموذجاً يحتذى به، تتردد أصداؤه في الشارع العربي إعجاباً وتقديراً واقتداءً، فبعد تحرير القسم الأكبر من الجنوب اللبناني في العام 2000، ارتفع منسوب الضغط الأميركي الإسرائيلي وحلفائهما على المقاومة في لبنان وحلفائها، بدءاً مع القرار الدولي 1559، واستكمالاً بعدوان العام 2006 الإسرائيلي على لبنان. 

في النتائج، خرجت المقاومة من الحرب أكثر مناعة وقدرة وقوة، الأمر الذي وسَّع دائرة المواجهة، ليس مع "إسرائيل" فحسب، بل مع أميركا وحلفائها وأصدقائها وكل من أحرجته تجربة المقاومة كحركة تحررية خارجة عن الهيمنة الأميركية والإسرائيلية.

 لقد أعطت المواجهة التي خاضها محور المقاومة مع الإرهاب، بدعم إيراني روسي صيني، بعداً جديداً للصراعات الإقليمية والدولية، وشعرت أميركا وحلفاؤها بأنّ تحالف المقاومة بأبعاده الإقليمية والدولية يشكل تهديداً حقيقياً للمصالح الغربية، انطلاقاً من أمن "إسرائيل" المتراجع، وليس انتهاء بموارد الطاقة ومشاريع الهيمنة الأميركية، وهو ما دفع واشنطن، وللمرة الأولى، إلى المواجهة المباشرة مع من تصفهم بالأعداء، كانت ذروتها في اغتيال القائد العسكري لمحور المقاومة، الفريق قاسم سليماني، في أرض العراق، ومعه القائد الجهادي أبو مهدي المهندس.

ردَّت إيران باستهداف قاعدة عين الأسد غرب الأنباء، في هجوم هو الأول لدولة تواجه أميركا بالنار، لترفع بذلك مستوى المواجهة، من إضعاف القوات الأميركية واحتوائها إلى إخراجها من المنطقة بكل الوسائل المتاحة.

 تراكمات الانتصارات لحزب الله في جنوب لبنان وسوريا ضد داعش وغيرها من ساحات المواجهة، جعلت من المقاومة اللبنانية العمود الفقري لحركات التحرر ضد "إسرائيل" والهيمنة الأميركية في المنطقة، وكذلك الرقم الصعب في مواجهة داعش وباقي التنظيمات الإرهابية، وهو ما عمق حالة القلق الإسرائيلي الأميركي من حزب الله.

 قبل نحو عام، فرضت واشنطن عقوبات مالية على الحزب، انتهت إلى محاصرة الأموال التي يرسلها المغتربون اللبنانيون إلى عائلاتهم في لبنان، والتي ساهمت على الدوام في تحريك عجلة الاقتصاد ورفع الاحتياط المالي من العملات الصعبة.

 ومع تصاعد الحديث عن الثروة النفطية في المياه الإقليمية، وخصوصاً قرب الحدود الدولية مع فلسطين المحتلة، بدأت "إسرائيل" بمحاولة سرقة هذه الثروة الوطنية الواعدة باختلاق نزاع حدودي. وقد حاولت فرض أمر واقع بمد اليد إلى الثروات اللبنانية، فكانت معادلة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بأن" المقاومة ستدمر أي منصة نفطية تعتدي على ثروات لبنان البحرية".

 دخلت واشنطن على خط الوساطة غير النزيهة، وحاولت بالترهيب والترغيب خلال المباحثات مع رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري قرصنة جزء من حصة لبنان في البلوك 9، فأخفقت، وحاولت معاقبة بري بالتلويح بفرض عقوبات على مقربين منه، ترافقت مع حملة داخلية موجّهة، واستكملت بضغط على الشركة الفرنسية "توتال" التي انصاعت بتأجيل موعد بدء التنقيب عن النفط عدة أشهر.

 عدم توفر العملات الصعبة، وخدمة الدين العالية الكلفة، وهدر المال العام، وفساد منقطع النظير راكمته سياسات الحكومات المتعاقبة والهندسات المالية، دفع لبنان نحو أزمة مالية واقتصادية هي الأخطر في تاريخ البلاد.

وبالتزامن مع الضغط الأميركي، يحاول خصوم حكومة حسان دياب في الداخل الاستثمار بالأزمة بمضاربات مالية وتصعيد سياسي من أجل العودة إلى جنة السلطة التي تنعَّموا بها لأكثر من 30 عاماً.

وخوفاً من نجاح تجربة حكومية مختلفة عن حكومات ما بعد الطائف، وإن كان بعض وزراء الحكومة الحالية لم يقدم أي إضافة جديدة، إلا أنه يسجّل لحكومة الرئيس حسان دياب أنها قدمت أداء مختلفاً عن الحكومات السابقة، والمطلوب إحداث صدمة في السياسة والاقتصاد، تنقل أوساط مطلعة على لقاء السفيرة الأميركية دوروثي شيا مع عدد من القيادات السابقة في قوى 14 آذار، أن أحد الصقور طلب دعم واشنطن لإسقاط الحكومة، فبادرته السفيرة شيا بالقول: "لا تعطوا حكومة حسان دياب شرف إسقاطها سياسياً، بل دعوا التظاهرات تسقطها في الشارع. عندها، تسقط الحكومة وتجربتها".

الشارع هو ما عوَّلت عليه الولايات المتحدة منذ اللحظة الأولى للتظاهرات السلمية والمحقة التي عبَّرت عن وحدة وطنية قلَّ نظيرها في تاريخ الكيان اللبناني، لكن واشنطن لم تنظر إليها بعين الحقوق، بل سعت إلى استثمارها في الضغط على لبنان، فوكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية، ديفيد هيل، الذي زار لبنان بعد تشكيل حكومة دياب في الشهر الأخير من العام 2019، أكد بعد لقاءاته مع المسؤوليين اللبنانيين أن أميركا ليس لديها فيتو على أحد، في إشارة إلى الرئيس حسان دياب، لكنه شدد على ضرورة حماية التظاهرات وحرية التعبير، الأمر الذي يغيب عن أدبيات السياسة الأميركية تجاه الدول والحكومات التابعة لها، أين هذه الحرية في حق الشعوب في تقرير مصيرها؟ هل ينطبق هذا الحرص الأميركي على فلسطين المحتلة؟ وماذا عن حصار كوبا وفنزويلا وإيران وسوريا؟ وكيف تصرف هذه الحرية بالتعبير في دول حليفة لواشنطن هي الأكثر استبداداً ورجعية وقمعاً؟

 من باب الواقع، نقول إن أميركا هي المسؤولة عن الفوضى الهدامة في العديد من دول العالم، ولبنان ليس استثناء، فالحصار الأميركي المالي للبنان هو السبب الأساس في ضرب الأسواق المالية وعرقلة استثمار الثروة النفطية، وهدفه سلب قوة هذا البلد وإخضاعه ونهب ثرواته.

 تحاول أميركا الاستفادة من كل نقطة ضعف في الجسد اللبناني، ومنها وجع الناس الذين سجلوا، وللمرة الأولى، انتفاضة وطنية عابرة لأي اصطفاف طائفي ومناطقي. وللمرة الأولى، طالبوا بحقهم في العيش الكريم الذي كفله لهم الدستور، في عقد اجتماعي قائم على الحقوق والواجبات. 

ومما لا شكَّ فيه أن الولايات المتحدة تسعى إلى ضرب النموذج اللبناني بكل أبعاده، فهي لا تريد أن تستمر شعلة المقاومة كنموذج لتحرر الشعوب من الاحتلال والهيمنة، ويقلقها التنوع الديني الذي يناقض مسعى "إسرائيل" لإقامة دولة يهودية على أرض فلسطين المحتلة، إضافة إلى أن توفر ثروات نفطية يسمح للبنان بتوسيع مساحة الاستقلال وعدم التبعية للخارج، لما للبنان من أهمية في الحسابات الاقتصادية الصينية والروسية، وهو ما يعطي لبنان فرصة حقيقية للعبور إلى دولة المؤسَّسات والخروج من عبودية النظام الطائفي الذي أورثنا إياه المستعمر.

المطلوب من الحكومة اليوم رفع الإجراءات والقرارات البعيدة من أي حسابات طائفية أو مناطقية، لتحقيق مصلحة الناس التي هي فوق أي اعتبار، والمبادرة إلى وضع قانون انتخابي يؤمن العدالة والتمثيل الصحيح لمختلف فئات الشعب خارج القيد الطائفي، وتجري على أساسه الانتخابات البرلمانية المقبلة، وينتج منها سلطة قادرة على تحقيق استقلالية القضاء ومحاصرة منظومة الفساد.

بعد ذلك، وبقوة الدستور، نستطيع العمل على استعادة المال العام ووقف الهدر واسترجاع الأملاك العامة والأموال المنهوبة وتحقيق العدالة الاجتماعية. ربما هذا تفاؤل مفرط، لكن تشرشيل يقول إن "المتشائم يرى الصعوبة في كل فرصة، أما المتفائل فيرى الفرصة في كل صعوبة". 

في الـ 17 من تشرين الأول/أكتوبر اندلعت احتجاجات في لبنان بسبب تردي الأوضاع المعيشية ونية الحكومة فرض ضرائب جديدة، هذه الاحتجاجات ألقت بظلالها على المشهدين السياسي والاقتصادي المترديين أصلاً.