رسالة مفتوحة إلى المقاومة، فصائل وشخصيات، في الوطن والشتات

زعامة الرئيس الراحل ياسر عرفات، لم تعدم وسيلة لإدارة المشهد الفلسطيني الداخلي، بطريقة لا تُشعر الآخرين بأنهم خارج "سرب الشرعية"، لكنها، في المقابل، لم تقرّبهم يوماً من "مطبخ صنع القرار".

  • الوقت من دم، في غزة والضفة والقدس.
    الوقت من دم، في غزة والضفة والقدس.

ذات مقال، عندما كان الأمل ما زال يحدونا بـ"عودة الروح" إلى السلطة والرئاسة وقيادة فتح والمنظمة، اقترحنا الشروع، من دون إبطاء، في ورشة إحياء وبعث، تجديد وتشبيب، إصلاح و"دمقرطة"، لمنظمة التحرير الفلسطينية، من دون انتظار حماس والجهاد، إذ كانت الحجة في حينه أنهما من يضع العراقيل في طريق المصالحة والانضواء تحت راية المنظمة والشرعية الفلسطينيتين.

يومها حاججنا بأن الفلسطينيين لن يخسروا شيئاً، بل سيربحون كثيراً، إن أمكن إنجاز هذه المهمة. فإن عاد الفصيلان المقاومان إلى "بيت الطاعة"، وجداه مرتباً ومهيَّأً لانطلاقة جديدة، ويكون الشعب وممثله الوحيد فازا بالحُسنين: الإصلاح والمصالحة، وإن بقيا على مواقفهما، فإن المنظمة وشعبها يكونان نالا إحداهما. لا شيء من هذا حدث، لقد أسمعنا لو نادينا حيّاً، ولكن لا حياة لمن تنادي.

الحقيقة أن أملنا بشأن الاستجابة لدعوتنا ظلّ محفوفاً بالشك وانعدام اليقين، فكاتب هذه السطور ما زال يذكر أول محاولة انخرط فيها شخصياً في مشروع إصلاح منظمة التحرير، كانت زمن "التحالف الديمقراطي"، عام 1984، بعد الانشقاق الأول، والأكبر في حينه، حين لم تكن حماس ولا الجهاد رأتا النور بعد، ونحن منذ أزيد على أربعين عاماً، وحتى يومنا هذا، كلما أوغلنا في أحاديث المصالحة، ازدادت المنظمة، ومن بعدها السلطة، خراباً وترهلاً، استئثاراً وتفرداً، هبوطاً في الكفاءة والأداء، فساداً وإفساداً، إقصاءً وتهميشاً. حتى إننا بلغنا لحظة بتنا معها نرى أن انتظار المصالحة هو الرديف الفلسطيني لـ"انتظار غودو".

طوال عشريّتين من السنين (1984– 2004)، لم تكن هناك مصالحة ولا من يتصالحون، لكن زعامة الرئيس الراحل ياسر عرفات، التاريخية/الكاريزمية/الأبوية، لم تعدم وسيلة لإدارة المشهد الفلسطيني الداخلي، بطريقة لا تُشعر الآخرين بأنهم خارج "سرب الشرعية"، لكنها، في المقابل، لم تقرّبهم يوماً من "مطبخ صنع القرار".

وكان ما يخفف حدة الانتقادات والاحتجاجات على التفرد والاستئثار، ويجعلها قابلة للاحتواء، أن مختلف فصائل العمل الوطني، بمن فيها الجبهة الشعبية التي تصدرت المعارضة الفلسطينية ردحاً طويلاً من الزمن، لم يكن يساورها الشك في أن عرفات وقيادة فتح والمنظمة لم تخرج عن سكة الالتزام الوطني، حتى حين بلغ الانقسام أشدّه واتخذ مناحي خطيرة وعنيفة.

ولأن الشيء بالشيء يُذكر، أذكر، بعد زيارة عرفات للقاهرة، في إثر ركوبه البحر من طرابلس ومخيماتها، زمن الانشقاق والتدخل السوري، وحين خرجت "الهدف" بغلافين، واحد عن "سادات فلسطين"، والثاني بعنوان "المنبوذ"، من وحي المؤتمر الصحافي للحكيم جورج حبش، وبعباراته ذاتها تقريباً، أذكر أنني سألته، في جلسة عصف نادرة، عمّا إذا كان يعتقد أن أبا عمار غادر الصفّ الوطني. أجاب، من دون تردد: أبداً.

المنظمة ذهبت إلى أوسلو، والسلطة وليدته ستبتلع فتح والمنظمة معاً، والعملية برمتها، بدأت في زمن الزعيم الراحل، الذي، إن كان مسؤولاً عن نقل فتح والمنظمة من خندق التحرر الوطني إلى موقع "سلطة لا سلطة لها"، إلا أن الرجل نظر مخلصاً إلى هذا المسار بصفته انتقالياً، سينتهي بالدولة المستقلة عند حدود 1967.

ولم يكن ضمن حساباته أن هذا الطريق ذو اتجاه واحد، بدلالة أنه ما إن شعر بالخديعة بعد كامب ديفيد، وأدرك انسداد أفق المسار التفاوضي، حتى لجأ إلى الانتفاضة الثانية، واستعاد فصولاً من خيار الكفاح المسلح، ليدفع حياته، بعد ذلك، ثمناً لمحاولته المزاوجة بين مسار التفاوض وخيار المقاومة.

اليوم، تبدو الصورة مغايرة تماماً، لم تعد السلطة هي ذاتها، التي بدأها ياسر عرفات، ولم يتبقَّ من أسلو سوى اسمه وبعض هياكله الهزيلة. ولولا "التنسيق الأمني" الذي أحيط بهالة من "القداسة"، يؤثم من يمسها أو يشكك في جدواها، لما بقيت السلطة، ولكان انتفى مبرر وجودها.

اليوم، يبدو أن السلطة انتقلت من مسار أوسلو إلى طريق التكيف مع مخرجات الحل الإسرائيلي، وهو طريق، على ما يبدو، ذو اتجاه واحدٍ، لا محطات دوران واستدارة "U-  turn" عليه.

اليوم، يتفشى الاستئثار وتتعمق الهيمنة، بغياب زعامة "الختيار" الوازنة، والتي اكتسبت كثيراً من دعائمها من وجود قيادات تاريخية محيطة بها، كانت موضع إجماع وتقدير، مثل أبي جهاد وأبي إياد، وغيرهما كثر.

اليوم، لدينا "ترويكا" ممسكة بتلابيب القرار، هي المشكلة، ولم تكن يوماً جزءاً من الحل، الأمر الذي حدا بالفلسطينيين إلى إعادة مفردة "ختيار" إلى معناها الأصلي، المتصل بالكِبَر والطَّعْن في السن فقط، ولسان حالهم يقول: ليس كل ختيار "ختياراً".

الإخوة والرفاق والزملاء

لم يعد الانتظار مجدياً، نقول لكم، اليوم، ما قلناه لقيادة فتح والسلطة والمنظمة من قبلُ: أن اذهبوا في التجمع والتكتل وبناء الائتلافات الصلبة والعريضة. وحِّدوا طاقات شعبكم خلفكم، واحرصوا على طوفان الطاقات من خارج صفوفكم، فليس كل الشعب الفلسطيني منخرطاً في فصائله، فهذا رصيد لكم، إن انفتحتم على الشراكة والمشاركة، ونبذتم بدوركم الإقصاء والإبعاد و"الفصائلية الضيقة".

اعملوا على بناء أعرض جبهة وطنية متحدة، البعض يفضل استعارة ما ذهب إليه غرامشي عن "الكتلة التاريخية -الحرجة"، وإن كان يقصد شيئاً آخر.

اسعوا لتنظيم صفوف شعبكم، فالشعب غير المنظم غير فاعل. أعيدوا الحياة إلى المنظمات الشعبية الفلسطينية التي ملأت الأرض والفضاء، زمن صعود الحركة الوطنية وانتعاشها. وظِّفوا كفاءات شعبكم، كل في مجاله واختصاصه، فالحرب مع العدو ساحتها قارات العالم الخمس، ولديكم رصيد من الفاعلين، إن تنظم وتفعّل، فسيُحدث فارقاً جوهرياً.

ادخلوا في حوارات تتعدى "صياغة بيان ختامي أو تصريح صحافي"، وليَكُن حواراً ذا طبيعة استراتيجية بشأن المرحلة والمشروع وأدوات الكفاح وسبل الاستنهاض والتعافي.

اعملوا على مواكبة التحولات الهائلة التي استحدثها الطوفان والاستثمار فيها والبناء عليها وضمان ديمومتها واستدامتها. وزعوا الأدوار فيما بينكم حين تتوجهون إلى شعوب أمتكم أو إلى الأحرار والشرفاء في العالم، فهؤلاء هم حلفاء الشعب الفلسطيني الاستراتيجيون، وهم أكبر من "تيار بعينه"، أقصد الإسلامي بصورة خاصة، وهم أكثر فعّالية من الحكومات والحكّام، من دون التفريط بأي مكتسب أو إنجاز.

فإن استيقظت القيادة المتنفذة في فتح والسلطة والمنظمة، ذات صباح جميل، وقررت الإنصات إلى نبض شعبها والاستماع إلى ما يجيش في عقول طلائعه وصدورها، كان به، وأهلاً وسهلاً بها، ولها ما يليق بماضيها من مكانة، وأشدد على ماضيها، فليس في حاضرها كثير من النقاط البيضاء.

وإن ظلت سادرة في غيّها، ضاربة بعرض الحائط الوحدة والإجماع والمشروع والقضية والحقوق، فإن العجلة تكون انطلقت، وكرة الثلج تدحرجات وأخذت تكبر بتوالي الأيام وتعدد الساحات والميادين والفاعلين.

البقاء في مقاعد الانتظار ليس خياراً أبداً. وسدّ الباب في وجه الفريق الآخر "الشرعي" ليس من الحكمة في شيء. لستم أنتم الذين يتعين عليهم الوقوف على أبواب الحوار والمصالحة، وأنتم تعلمون، عبر التجربة المتكررة مرات ومرات، بأنه باب "دوّار"، يخرجون منه كما يدخلون. هم من يتعين عليهم مراقبة المياه ومشاهدتها وهي تجري من تحت أقدامهم. هم من يتعين عليهم أن يروا شعبهم يسير خلف أحدٍ غيرهم، لا وفق مشاعره وعواطفه فحسب، بل عبر أفعاله التي تسبق أقواله.

الوقت من دم، في غزة والضفة والقدس، والوقت من حقوق ومكتسبات، تبدو مطروحة كطبقٍ شهيّ على موائد اللئام، ولا نريد لكم ولشعبكم أن تكون الأيتام على هذه الموائد.

اقطعوا الطريق على "الواوي" الذي ينتظر بفارغ الصبر ذبح "الجمل" لتناول عشائه. لقد ضاع وقت ثمين وطويل في "الحوار بشأن جنس الملائكة".

عشريتان من السنين في ماراثون الحوار و"سياحة المصالحة" من دون جدوى. وأربع عشريات من حديث الإصلاح والتحديث بينما الخراب يعم ويقيم. آن الأوان لكسر هذه الحلقة المفرغة، والخروج من شرنقة المواقف والشعارات الرومانسية، التي إن صحت في مضامينها ومراميها، إلا أن القوم يتخذون منها ستاراً وقنابل دخانية للتعمية على سؤال "ما العمل؟" وتأجيل الاستجابة لتحديات المرحلة ومهمّاتها.

قلنا، من قبلُ، وقال غيرنا كثيرون إن أكبر خدمة تقدمها السلطة إلى نتنياهو وفريقه الفاشي هي الاستمرار في بيع الأوهام، والتمسّك بسراب التفاوض العبثي وأكذوبة "الطريق إلى حل الدولتين".

لقد استفاد العدو من ذلك كله في التغطية على عمليات التدمير المنهجي المنظم لمسار السلام و"الدولتين"، وكان له أن نجح في رفع الإحراج عن نفسه، وتفادي الضغوط الدولية أعواماً طويلة، والظهور في مظهر يناقض جوهره ككيان مجرم يقترف التطهير العرقي والإبادة الجماعية والفصل العنصري.

وبالقياس مع الفارق، نقول لكم، اليوم، إن الاستمرار في بيع "وهم المصالحة"، والاستجابة غير المشروطة لمذكرات الجلب إلى موائد الحوار في هذه العاصمة أو تلك، لا نتيجة له، سوى إكساب "الترويكا" في رام الله غطاءً وشرعية لتدمير ما تبقى من مؤسسات وأطر وبقايا مشروع وطني، ومدّها بالوقت الذي تحتاج إليه، للتدحرج على هذا المنحدر السحيق، فلا تمنحوها الوسيلة والفضيلة للَّعِبِ بكم وبشعبكم.

أمس، وأمس الأول، كان الوقت الأكثر ملاءمةً لغذّ السير في هذا الطريق. وليس دائماً تصح مقولة: أن تصل متأخراً خير من ألا تصل.

اليوم، وليس غداً، يتعين بدء تحرك وطني شامل من هذا النوع، ومن أراد أن يُخلص للطوفان فهذا طريق الخلاص. من أراد التصدي بكفاءة واقتدار لاستحقاقاته وفواتيره وما فتحه من آفاق، ومن فرص وتحديات، فعليه أن يشرع، اليوم، في بناء أعرض وأوسع وأصلب جبهة وطنية متحدة.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.