لماذا تفشل الصناعة في الوطن العربي بينما تنجح في الغرب؟
لعلّ التغيير يبدأ من تغيير النظرة إلى الأمور وتحليل الواقع تحليلاً موضوعياً عقلانياً للتأسيس لعملية إعادة البناء ولو تجسّدت فقط في محاولة نابعة من طموحات الشعوب العربية.
من المؤكّد أن الشعوب العربية تتوق إلى رؤية نموذج تنموي محلي يُنقذ الجميع من براثن التخلّف والفقر والمهانة، ويحمل في صلبه تجربة صناعية حقيقية قادرة على خلق حركية داخلية، وإنتاج منتوج محلي يعرف بالبلد وينافس على حصته في الأسواق الخارجية.
غالباً ما ينبعث التوق إلى الشيء من افتقاره وهو ما ينطبق على الصناعة في الوطن العربي الذي يعرف قحطاً صناعياً مهولاً منذ زمنٍ سحيقٍ في نظامٍ اقتصادي هشّ يفتقد إلى الحركية والأسس المتينة بتعدّد المعوقات البنيوية في بيئة أصابها السُقم المُزمِن، وجعل تركيز أهلها مُنحصراً في الماضي عوض الإقبال على المستقبل.
حقيقة، المُعضلة أكبر من أن تكون اقتصادية بامتياز، إذ تتشابك في طيّاتها العوامِل والتجلّيات الصعبة التفكيك والتناول. عندما نتحدّث عن الصناعة، نتحدّث ضمنياً عن العمل الشاق المتواصل المُحْتَضِن للإبداع ببلورة الفكر النظري إلى فكر عملي لإنتاج الماديات. يتّضح إذن أن العملية أكبر من أن تُقنَّن في القالب التقني الصرف باعتبارها مسار تطوّر تاريخي، حيث تنصهر المُعطيات الجغرافية بالنفسية والذهنية والمعرفية.
البنيات الفكرية والمعرفية
كرّست البنيات الفكرية القائمة واقع غياب العقل الذي يتطلّبه التطوّر، كيف ذلك؟
من المؤكّد أن الفكر الصناعي يتعامل مع الطبيعة ويغوص في عوالمها لفَهْمِ أسرارها وضَبْط عملية التعامُل مع كنوزها. هناك حوار ودّي وإيجابي بين العقل الغربي والطبيعة، في حين أن علاقتنا كعربٍ ظلّت غير ودّية معها وازدادت المسافة بيننا وبين المادة ابتعاداً ونفوراً، ما يُفسّر افتقاد درابة صناعية وفكر صنائعي عملي. فأصل التطوّر المادي والرفاه يتأسَّس على علاقة الفرد مع الماديات وعلى الابتكار والتجريب والمُخاطرة، الشيء الذي يفتقده المواطن العربي الذي يفضّل الإنطواء في كَنَفِ العادة ونمط العيش السائِد مفضلاً التقليد لضمان الاستقرار والأمان.
كما هو معلوم، تنطلق المُبادرات من الفكر النظري الذي يتحوَّل إلى فكرٍ عملي مُنتج، غير أن هذا المرور الطبيعي ينقطع في الواقع العربي ولا يتم، وتبقى الفجوة بينهما عميقة لعدّة أسباب تحتاج بدورها إلى عملية حفرٍ وتفكيك، يبدو أن من أهمّها المَيْل إلى الهروب من الوقائع ومواجهة ما هو كائن، والاقتصار على التفكير في ما هو ممكن في غياب تام للعقلانية. ثمة ميل طبيعي إلى اختيار ما يُريح النفس ويُزيح عنها الضيق والشقاء، ويستجيب للمصلحة الآنيّة عَوَض الانكباب على المشقّة والمُعاناة والمُجازَفة. ليست هناك مخطّطات تشارُكية نابعة من دراسات عميقة، بل فقط ظواهر انفعالية وردود فعل حتمية غير قادرة على التأثير في ظواهر ضارِبة بجذورها في الزمن.
بنية المجتمع العربي
ربما لم يحدث أن مرّ المجتمع العربي من مجتمع بدائي/زراعي إلى مجتمع صناعي متقدّم. قياساً مع ذلك، لم يتحقّق ذلك المرور المنطقي من نمط العيش القروي إلى نمط عيش المدينة. ظلّ الاقتصاد المحلي بدائياً مرتكزاً على الرعي والتجارة والزراعة باعتبار البنية القبلية للمجتمعات العربية والمُعطى الجغرافي.
رغم مرور السنين والتطوّر الذي استقرّ في معظم الأمصار والتلاقُح مع الحضارات الأخرى وظهور موارد إغتناء جديدة،
ظل مفهوم الثروة محدوداً وبنية الإقتصاد المحلي هشّة لعدم تخلّصه من الطابع البدائي، كما تعمّقت في نسيجه مبادئ الرَيْع والاحتكار رغم ما قد تُبديه المظاهر من انطباعٍ مخالفٍ لما هو باطني.
كيف لفكرٍ صناعي أن يقوم في بيئةٍ يسودها الرَيْع وتقدّس التواكل ومبدأ الاغتناء من التجارة والغنيمة وتحتقر المبادرة الفردية والإبداع؟
من الطبيعي إذن أن تفتقر المجتمعات العربية إلى طبقةٍ برجوازية مُحتَضِنة للمبادرة الصناعية وتوّاقة إلى قيادة المجتمع ما دام هناك نظام سياسي مُستبد يحتكر كل شيء ويفرض الوصاية على الجميع.
إشكاليات التنظيم والتدبير
ثمة مشكل بنيوي في التنظيم والإدارة وتدبير الموارد. ربما لم نتخلّص نحن كعرب من نزعة البداوة والمَيْل إلى الفوضى وعدم الانقياد إلى القانون والتصرّف وفق المزاج والأهواء من دون الانصياع إلى الحِكمة والمنطق والنظام المدني.
ما يزيد في الطين بلّة:
-فشل المنظومة التعليمية في تعبئة الموارد البشرية وتأهيلها للنهوض بواجباتها انطلاقاً من التركيز على العامل النفسي والذهني وتطوير الحسّ الوطني عوض الحسّ القبلي وبناء الفكر النقدي الفعّال.
-عدم تشجيع النظام التربوي على الإبداع بتركيزه على التلقين والتشدّد في التقنين وعدم انفتاحه على جديد المعارف والعلوم والتطبيقات التجريبية.
-عملية التصنيع تقوم على الانضباط والدقّة والاختصاص والتوزيع العقلاني للمهام وربما هي انعكاس لمُعطيات واقع ثقافي أكثر منه مجرّد مُعطيات تقنية أو لوجيستيكية.
عوامِل تقنية ولوجيستيكية
غالباً ما تعبّر هذه العوامل عن ضعف الاقتصاد المحلي وعدم انسجام البيئة المُحْتَضِنة له مع مُتطلّبات بناء اقتصاد عصري قوي.
من المؤكّد أن المجتمعات العربية مجتمعات استهلاكية بامتياز تبحث عن الجاهز المتوافر وتنفر الإنتاج والخلق، لذلك تواجه الوحدات الصناعية المحلية صعوبة في إثبات الذات لانصراف المواطن إلى السلع الأجنبية وعدم إبداء الثقة في المنتوج المحلي ما يؤثّر على القُدرة التنافسية للمقاولة المحلية التي تعاني أصلاً من محدودية السوق المحلي وغياب الدعم المالي.
ثمة معوقات تقنية جليّة تتمثّل في عدم انسجام عملية الإنتاج مع متطلّبات السوق المحلي وتركيزها على عملية التصدير لضعف القدرة الشرائية المحلية وبحثها عن منافذ قادرة لتصريف منتجاتها، إضافة إلى ضعف عملية التسويق وغياب حماية الملكية الفكرية وانفصام البحث العلمي عن أنشطة القطاع الخاص.
كل ما تم ذِكره يُفسّر غياب تراكُم التجارب وهشاشة القطاع الخاص المحلي المُتَضَعْضِع.
العامل الخارجي
من المنطقي أن نجد للعامل الخارجي يداً في معضلة الضعف الصناعي العربي ما دام قد سبق للاستعمار الخارجي أن سلب المبادرة الوطنية وقام بإجهاض كل المحاولات الإصلاحية النهضوية، وكان وراء عملية سلب كل قُدرة على الإصلاح لاستدامة سيطرته واستئثاره بالخيرات الطبيعية للبلدان العربية، وجعلها أسواقاً دائمة لتصريف مُنتجاته. تظلّ معادلة المُنتج/المُستهلك لديه مقدَّسة وغير جائَز المسّ بها.
لعلّ التغيير يبدأ من تغيير النظرة إلى الأمور وتحليل الواقع تحليلاً موضوعياً عقلانياً للتأسيس لعملية إعادة البناء ولو تجسّدت فقط في محاولة نابعة من طموحات الشعوب العربية.