في الكوارث والحروب الدموية المُتلاحقة.. ماذا يعني أن تكون صحافياً في غرفة أخبار؟
تغطيةٌ تتلوها تغطية، ونحن كصحافيين على رأس عملنا، نتابع الأخبار وننقلها إلى الجمهور والرأي العام، لكن من الذي سينقل أوجاعنا التي تُخلّفها تلك التغطيات فينا نحن الصحافيين؟
ماذا يعني أن أكون صحافيةً في غرفة أخبار؟
كنتُ أسأل نفسي مراراً، لأفهم دوري جيّداً حتى أؤدّيه كما يجب، إلى أن وجدت إجابتي عن هذا السؤال في عام 2023 الذي فات الآن، لكنّه سيبقى عالقاً في ذهني كصحافية إلى الأبد.
فأشهر هذا العام الـ 12 لم تخلُ من التغطيات المتلاحقة عن الكوارث الطبيعية والحروب الدموية. بدأنا العام بزلزال سوريا وتركيا، حتى حرب السودان وعملية "ثأر الأحرار"، ومن ثمّ زلزال المغرب وإعصار ليبيا، إلى أن وصلنا إلى تغطية ملحمة "طوفان الأقصى" 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
تغطيةٌ تتلوها تغطية، ونحن كصحافيين، خلف الشاشة على رأس عملنا، نصل ليلنا بنهارنا، نتابع الأخبار وننقلها إلى الجمهور والرأي العام، في غرفة أخبار لا يُمكنها إلاّ أن تكون متّعطشة للأحداث لنقلها بسرعةٍ ودقة.
كان القاسم المشترك بين كلّ تلك التغطيات مشاهد الأشلاء المُقطّعة وسيل الدماء والدمار الذي ابتلع عشرات الآلاف من الموتى والشهداء والمفقودين، باختلاف المسبب لذلك طبعاً، من تركيا إلى سوريا إلى السودان وليبيا والمغرب، حتى رسي شلّال الدم هذا أخيراً في غزة ولبنان، فلم نكن نلحق استيعاب حدثٍ حتى يأتينا حدثٌ آخر.
وهكذا كنّا ولا زلنا، نلحق الأخبار ونتعرّض لمشاهد تفوق حجم استيعابنا وتحمّلنا، لننقل أوجاع الناس وقصصهم المُؤلمة والمُلهمة والبطولية أيضاً، إلى الرأي العام والجمهور. لكن، في خضمّ كل ذلك، كنتُ أسألُ نفسي: من سينقل أوجاعنا التي تُخلفها كل تلك التغطيات في أرواحنا وأنفسنا، نحن الصحافيين، إلى الجمهور؟
فأن تكون صحافياً، أيّاً كان موقعك في الميدان أو خلف الشاشة، في ظروفٍ صعبة كهذه، لا يعني أن تنقل الخبر فحسب، بل أن تعيشه بكلّ وجودك وجوارحك. فحين يأتي خبرٌ عن كارثةٍ طبيعية هنا ومجزرةٍ إسرائيلية هناك، كنّا ننقل الخبر بدموع منهمرة وأصابع مرتجفة من هول المشاهد، تُفتّش عن كلمات مُناسبة توصّف الحدث وصفاً دقيقاً للجمهور، في وقتٍ كان مراسلونا في ساحات الكوارث والحروب والدمار، يسطّرون عملاً صحافياً شجاعاً وبطولياً خالداً أيضاً.
كل تغطية علّمتنا دروساً بطريقة أو بأخرى، كصحافيين نُمارس مهنتنا، وكبشر عاديين نُمارس إنسانيتنا في آن، بحيث كسبنا خبرات جديدة في التغطيات، إلى جانب تعلمنا دروساً حياتية في الرضا والتسليم بقضاء الله، وفي الصمود والتجذّر في الأرض، وكيف تُصنع البطولات.
ولعلّ التغطية التي تركت الأثر الأكبر وخلّفت وجعاً لا ينتهي فينا كصحافيين، هي تغطية ملحمة "طوفان الأقصى"، لما تُمثّله هذه المعركة من مرحلة مفصلية ووجودية في منطقتنا، وأيضاً في مسيرتنا المهنية.
أذكر جيداً صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر، فحين بدأت المعركة، كنتُ على رأس عملي. أنباءٌ عن إطلاق آلاف الصواريخ على غلاف غزة، واقتحام قوات المقاومة لمستوطنات الغلاف ومواقع الاحتلال، رداً على الاعتداءات على المسجد الأقصى. سارعنا إلى نقل الخبر بمشاعر لا توصف من الفخر بتلك الملحمة البطولية، التي لم يشهد مثلُها، جيلي على الأقل، من قبل.
صحيحٌ أنّني فرحتُ كثيراً بما يجري، فلأوّل مرة منذ زمن، نُباغت نحن العدو، ونشنّ حرباً عليه، ويدخل الغزاويون المُحاصرون "خاوة" إلى أراضيهم المحتلة فيستنشقون هواءها ويقبّلون ترابها بكل شموخ، لكنني سرعان ما فكّرت بالمجازر التي سيرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق المدنيين في قطاع غزة، وتربّصت أمام الشاشة ترقّباً لما ستؤول إليه الأمور. فعمل بطولي كـ "طوفان الأقصى"، كسر كل قيود الاحتلال وهزأ بأجهزته الأمنية والعسكرية، ستكون ضريبته بالدمّ كبيرةً طبعاً، إذ لا مقاومة من دون تضحيات وسيل دماء.
لكنّ وحشية الاحتلال في المجازر والدمار والتخريب تجاوزت توقعاتي وتصوراتي، فكلّما كنت أقول إنّه لا يمكن أن يأتي أصعب مما يجري، أرى الاحتلال كشّر عن أنيابه وازداد وحشيةً ودمويةً أكثر فأكثر.
وكلّما كنت أرى طفلاً ينزف دماً، أشعر أنّ دمه ينزف منّي، وكلّما رأيت أباً وأمّاً أو أخاً وأختاً يتألمون لفقد أهاليهم وأحبابهم، أشعر أنني أنا التي فقدت أهلي، وينتابني دافعٌ قوي بالانتقام لكلّ هؤلاء، فأنتقم بنقل صوتهم ووجعهم وألمهم إلى العالم، أن انظروا، هذا ما يفعله الاحتلال وهذا ديدانه، وهذه أكاذيبه نفنّدها لكم.
وكنا مع كل عاجل لقصف إسرائيلي على مكان ما، نُسارع للاطمئنان إلى سلامة أهالي زملائنا الغزيين في المكتب، فعيالهم أيضاً تحت القصف، لكنّهم على الرغم من قلقهم عليهم، ما يأسوا يوماً من رحمة الله. وكلّما كنّا نشعر نحن بشيء من الوهن والضعف، كنّا نستمدّ قوّتنا من صبرهم وعزمهم وإيمانهم حين يقولون لنا بلهجتهم الغزاوية التي أحبّها، "فدا فلسطين والمقاومة"، فنزداد يقيناً معهم أنّ المقاومة حتماً ستنتصر في نهاية طريق ذات الشوكة هذا المُعبّد بالدم، حتى ولو كلّف ذلك دماء أغلى الناس علينا.
وقد اقترب منّا الموت شيئاً فشيئاً، حتى استفقنا ذات صباح من تشرين الأول/أكتوبر الماضي على خبر استشهاد 10 من أفراد عائلة زميلنا الصحافي عبد الرحمن الحسني، وهو الذي كان يُخبرنا عن حكايا إخوته ليلة استشهادهم، وظلّ يخبرنا عن قصصهم بكل صبرٍ وتسليم، بعد استشهادهم. ثمّ بعدها بشهر اقترب منّا الموتُ أكثر، حتى أصبح زميلانا فرح عمر وربيع معماري هما خبرنا وهما الحدث باستشهادهما بغارة إسرائيلية في جنوب لبنان.
في خضمّ كل ذلك، كنّا ننظر إلى دمائهم ونتابع الطريق، بحيث لم يكن يعزّينا شيء ويُبقينا صامدين ومتمسّكين بمهنتنا حتى الرمق الأخير كما فرح وربيع، وما يزيد على مئة صحافي في غزة، سوى إيماننا بأنّ الدم يُخلّد الحقيقة التي يريد الاحتلال طمسها، ويروي لنا طريقنا نحو تحرير أرضنا حتى يُزهر النصر، إذ إنّ دورنا كصحافيين مرادف للعمل المقاوم على الأرض، ويوجع الاحتلال ويؤلمه.
فأن تكون صحافياً تُغطّي ملحمة "طوفان الأقصى" بالتحديد، يعني أن تختبر أنواع الألم كافة ومشاعر الوجع والقهر والظلم الممزوجة بالفخر والعزة بفعل بطولات المقاومة من غزة إلى لبنان حتى اليمن والعراق.
كما يعني أن تعضّ على جراحك، وأن تُحاول التعايش مع صور الموت والدمار بأشكالها، رافضاً فكرة أن تتوقف عن تأدية دورك لأي سبب كان، لأنّك تُدرك أنّك من موقعك، كصحافي تؤمن بقضايا مُحقة، تخوض حرباً مع الإعلام الغربي والإسرائيلي وبعض القنوات العربية المتصهينة، والذي يتبع سياسات التعتيم والتضليل ضمن "بروباغندا" مدروسة ومقصودة، وأنّك تواجه تلك السرديات من خلال ملاحقة الحقيقة وصناعة الخبر ونقل "الواقع كما هو"، عن طريق توثيق الأحداث ومعالجة تبعاتها السياسية والاجتماعية والنفسية، عبر تغطية صحافية مُتكاملة توثّق كل جوانب الحدث للرأي العام بما يتلاءم معه، وبالوسائل المُعتادة والمستحدثة كافّة، ضمن سياسةٍ تحريرية تعبّر عن موقفنا وتوجهاتنا ورؤيتنا التي نؤمن بها، للمساهمة في توعية وتشكيل رؤية الرأي العام عن الحاضر والمستقبل.
فإن لم نفعل نحن ذلك، من الذي سيفعل؟ وما مصير الحكايا التي لا نكتبها إذاً؟ يسأل الكاتب إبراهيم نصر الله في روايته "أعراس آمنة"، ليجيب بنفسه أنّها تُصبح ملكاً لأعدائنا. لذلك، سوف نواصل رسالتنا مهما كلّفنا الأمر، وسنبكي كثيراً ونحزن طويلاً على الراحلين، لكن ليس الآن، فقبل ذلك، سننقل خبر النصر والتحرير.. عساهُ يكون في عامنا الجديد.