أوّل مرة تُذكَر فيها "الحريّة" في التاريخ.. كم ثمن هذه الأشياء؟
قدَّم سُقراط الحرية على أنّها "قدرة الإنسان على فعل ما هو أفضل"، بينما ربطها أفلاطون بالخير والمعرفة، وربطها أرسطو بالمعرفة والإرادة.
تجاوز مفهوم الحريّة حدود الزمان والمكان، وكان محور بحث الفلاسفة والمُفكّرين. وقد حدَّثنا التاريخ عن كلمة حريّة حين وردت لأوّل مرّة ضمن إصلاحات الملك أوروكاجينا الذي حكم مدينة لكش، إحدى المدن السومريّة في بلاد ما بين النهرين، في الفترة الممتدة بين الأعوام 2351 و2342 ق. م، بعد أن أطاح بسلفه لوغال أندا، الذي يُعدّه الكثير من المؤرّخين حاكماً ظالماً تمّ تنصيبه من خلال كهنة المعبد، بينما يعتبرون أوروكاجينا حاكماً مُصلحاً قام يإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية عديدة، ودوّنها في سجلات من الطين باللّغة السومريّة.
وقد وردت كلمة "أمارجي" في إحدى هذه الوثائق، وهي تعني الحريّة باللغة السومرية، وجاء فيها أنَّ "الملك منح الحرية التامة لسكّان سلالته". وكانت أوّل مرة تُذكَر فيها كلمة الحريّة، إذ لم يُشِر التاريخ إلى أنّها ذُكِرت قبل هذا الوقت.
قدَّم الفيلسوف سُقراط الحرية على أنّها "قدرة الإنسان على فعل ما هو أفضل"، بينما ربطها أفلاطون بالخير والمعرفة، وربطها أرسطو بالمعرفة والإرادة. لذلك، شكّلت الحرية حلماً وحياةً وأملاً يرافق الأحرار في حلّهم وترحالهم، وكانت معهم كخفقات قلوبهم.
وكما وصفها المهاتما غاندي، فإنَّ الحرية "روح الإنسان وأنفاسه، فكم ثمن هذه الأشياء؟". ولا شكّ في أن ثمنها باهظ، وباهظ جداً. ويقول ميخائيل نعيمة عنها: "الحرية أثمن ما في الوجود، لذلك كان ثمنها باهظاً".
ومنذ أن بدأ الوعي الإنساني الفلسفيّ بالظهور، وجدنا الحريّة قطب الرحى في قلب كل موضوع أو فكرة فلسفيّة. ولذلك، نرى أنّ أغلب من نظّر وناقش أفكاراً تتعلّق بالفكر الفلسفي ونظريّات حول الوجود الإنساني أشار إلى الحريّة بشكل مباشر أو غير مباشر، لكونها الأصل الذي تلتفّ حوله باقي الأفكار والمفاهيم المُتعلّقة بالطابع الوجودي للإنسان.
ففي التعليم، نرى المُفكّر والمُعلّم البرازيلي باولو نيفيس فريري (1921-1997) يقول في كتابه "تعليم المقهورين" (Pedagogy of the Oppressed)، الذي صدر في العام 1968، وكان سبباً في سجنه، ومن ثم نفيه عن موطنه:
"لا يوجد شيء اسمه عمليّة تعليم مُحايدة، فالتعليم إما يتحوَّل إلى أداة تصهر الأجيال الصغيرة في النظام الحالي وتؤدّي إلى الانصياع له، وإما يصبح أداة لممارسة الحرية. إنها الوسيلة التي يتمكَّن الرجال والنساء من خلالها من التعامُل بشكلٍ انتقادي وخلاّق مع الواقع، ويكتشفون كيف يمكنهم المساهمة في تحرير مجتمعهم".
لقد استخدم فريري التعليم وسيلةً ومنهجاً للثورة على الطُغاة من أجل انتزاع الحرية، واتّبع فيه منطق الحوار والنقاش وتبادُل الأفكار والرؤى بين المُعلّم والمتعلِّم، من خلال تحفيز الوعي النقدي الَّذي يتم من خلاله ملء الفكر بالمفاهيم الصحيحة والمبنيّة على القناعة، ليسير على نهجها المقهورون، ويتّخذوها وسيلة لنَيْلِ الحريّة.
لذلك، تشكّل الحريّة أعمق المفاهيم الإنسانية وأقدسها، سواء ببُعدها الدّينيّ أو الفلسفيّ الوجوديّ، كيف لا وهي تمثّل عِماد التجربة الإنسانية، بل هي الطريق الأوسع نحو أنسَنَة الحياة وإعطاء الذات بُعداً تستطيع من خلاله أن تتّخذ قراراتها، وتكون أفعالها مُحرَّرة من كلّ القيود، ومبنيّة على رؤية واعية مُنفتِحة بكلّ أبعادها!
فالإنسان لا تكتمل مقوّمات إنسانيّته وأبعاد تفكيره ووعيه المفاهيمي إلا من خلال حريّته، وقيمة الذات تكمُن في تلك الحريّة. ولولاها لبقي مُكبَّلاً بقيود العبوديّة، ولما استطاع التحليق نحو سماء الفكر والمعرفة.
ولذلك، الحريّة شعلة وهّاجة، قد تخبو ولكن لا تنطفئ، تمرض ولكن لا تموت، كُتِبَ لها أن تكون عصيّة، لا تولَد إلّا من رحم المُعاناة، فطريقها صعب شائك، ولواؤها ثقيل لا يجدر بحمله إلّا الأحرار. ومن أجل ذلك، للحريّة ثمن باهِظ.
إنّ أبرز مظاهر الحريّة يتجلّى عندما تخلع عن ذاتك سلطة الوعي السلبي، فالذات الإنسانيّة، عندما تمتلك حريّتها، ستحلّق في سماء الإبداع والتميّز، مُفعمةً بالحياة، مليئةً بالفكر البنّاء. والحريّة، وإن اختلفت من إنسانٍ إلى آخر، فإنها إذا توهَّجت في الذات الإنسانية، ستتحوَّل إلى بركانٍ ليس لأحدٍ القُدرة على وقفه، ولو باستخدام أشدّ أدوات القمع وأساليب التّرهيب.
وحين تخبو نارها، ستتحوَّل إلى عبوديّة عمياء لغير الله، وستنعكس سلوكاً ومنهجاً طابعه الذلّ والضعف والاستكانة، ليبدأ العبيد مسيرة الخبث والانتقام، ويمارسوا كلّ أنواع الخضوع والخداع والانحناء من أجل اقتناص الفرصة للقفز والتسيّد على ظهور المُتعَبين.
وحين نستحضر ثمن الحريّة، لا بدّ لنا من أن نقف مُستذكرين تلك الدماء التي سُفكِت، والأرواح التي أُزهِقت، والأجساد التي تمزَّقت تحت سياط السجانين. ولا بدّ من أن نستذكر الأصوات التي بُحَّت وهي تستنهض المقهورين أن أفيقوا فلا نجاة إلّا بالحرية، وهي لا تُسترجَع كعطيّةٍ أو منّةِ من أحد بالمجّان، بل تستردّ وتنتزع بالقوّة، وبأغلى الأثمان، فالرّخيص طبعه سهل المنال وسهل الضياع، والثمين صعب المنال، تنحني لرايته الأجيال تلو الأجيال.
ما أشرف طريق الحريّة! وما أعظم ثمنها! هي لواءٌ توالت على حمله صفوة خيِّرة وأطهارٌ برَرَة، سمعوا النداء الخفيّ، فأجابوه مُلبّين. انطلقوا مُسرعين مع نسائم الفجر الصادِق. ركبوا الحمام، وطلّقوا الخضوع والاستسلام، فعجبت لصبرهم وثباتهم الأيام. سحقوا الباطِل، وخلعوا عن وجهه قِناع الزّور والخِداع، وقدَّموا الأرواح من دون خسارة، فاستحقّوا الحريّة بجدارة.
عندما تفتح شبابيك الحريّة، فإنّها ستتجسَّد في أعلى الدرجات عبوديةً لله تعالى، فهي المنهج والدليل نحو بلوغ القُرب الإلهي، وهي السبب الذي يقود الإنسان إلى البحث في أعماق ذاته ليستقرئها ويستنطقها، فستنعكس بعد ذلك أخلاقاً وسلوكاً، وتأخذ بزِمام النّفس نحو قُرب الله تعالى.
وليكن ما يكون من أثمانٍ للحريّة، من دماء وأشلاء ومقابر جماعية وسجون انفراديّة، فالنفوس الحرَّة ستُعانِق سوط الجلاّد وتتحدَّى رصاصات الإعدام، فذلّ العبوديّة ثمنه أغلى، كيف لا وبالعبودية تموت الأرواح والآمال والأفكار، وتتحوَّل الحياة إلى كابوسٍ بعدما يفقد الإنسان كرامته!
ولذلك، ترى أهل العزّ والإباء لا يغفو لهم جفن ولا يهدأ لهم بال حتى ينتزعوا الحرية من بين أنياب الطُغاة، ويبقى العبيد في سباتهم في حظيرة الطُغاة.