ضحايا الإعلام المتواطئ يسقطون من دون دماء
إنَّ الحرب الحالية هي حرب مصطلحات وإعلام. أدركت أميركا الأمر، فأطلقت على مشروعها لتصفية قضية فلسطين وإيجاد شرق جديد "خطَّة السلام".
هذا ما أدركته "إسرائيل" سلفاً، إذ توجَّه دايفيد بن غوريون إلى الولايات المتحدة الأميركية ليباحث أباطرة المال اليهودي ويخاطبهم قائلاً: "لا نريد منكم دفع أيّ أموالٍ، ولكن من استطاع منكم شراء إذاعةٍ أو قناةٍ تلفزيونيةٍ أو جريدةٍ، فليفعل".
كان الإعلام العالميّ والمحليّ الأداة الأكثر فتكاً بالمواطن العربي والغربي على حدٍّ سواء في القرن الواحد والعشرين، إذ فقد متحدّثو لغة الضاد، المكانة المرجعيَّة التي اكتسبوها منذ زمن الفتوحات الإسلامية.
وأقصد بالمكانة المرجعية الشخصيّة العربيّة الاعتباريّة العلويّة، ودورها المحوريّ على شتّى الأصعدة والمستويات، الجيوإستراتجيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة والعلميّة.
أمّا ما فقده المواطن الغربي، فهو ذلك الجزء الأساسيّ من الذات، المتمثّل في الاستقلاليّة والعقلانيّة، والنأيّ بالأنا الأعلى عن أيِّ مؤثراتٍ داخليةٍ أو خارجيةٍ لا تحتكم إلى المنطق كأساسٍ للحكم النافذ، فأمام السيل الهادر والكمّ الهائل من المواد السمعيّة والبصريّة التي هاجمت القضايا العربية والإسلامية، أضحى الغربيون يعانون من "الإسلاموفوبيا"، ويمكن أن نضيف إليها مصطلحاً جديداً هو "العربوفوبيا".
أسّست هجمات القاعدة ضدّ برجَي التجارة في أميركا في العام 2001 مرحلةً جديدةً من الصراع بين الشمال والجنوب، استغلَّتها الولايات المتحدة الأميركية كموجبٍ ومبرّرٍ لغزو البلاد العربية وتهجينها وتدجينها، من خلال الحرب النفسيّة والآثار المعنويّة التي تهدف إلى تحقيق استلابٍ ثقافيٍّ وطفرةٍ قِيَميَّةٍ وتهاوٍ إلى الحضيض، تحت شعارات الحرية والديموقراطية والمساواة التي تسعى إلى محو الذاكرة الجماعية والإرث المشترك بين العرب والمسلمين.
هكذا بدأ الغرب جزءاً من خطّته، تمثّل في استهداف دولنا وأفراد شعبنا بحربٍ إعلاميَّةٍ شعواء تجعل من كلّ ذي مناعةٍ ضدّ الاغتراب والاستعمار إرهابياً ومتطرفاً وأصولياً سلفياً يشكّل خطراً على الأمنَين القومي والعالمي.
هذه الحرب السيمانتيكيَّة وجدت صداها لدى المواطن العربي البسيط، الَّذي أضحى مناصراً لهذه الأطروحة الغربية والشاذة، فباشر الشتم والبربريّة ضدّ كلّ مشروع فردي أو جماعي يريد أن يسمو بمكانة الأمة، ويعيد إليها مكانتها الّتي فقدتها قبل حقب عديدة.
ففي دول المغرب العربي، تجد مواطناً عربياً يهاجم من يحمل السلاح ضدّ الغزو الغربي في بلاد المشرق العربي أو غرب آسيا، بدعوى أنَّ هذه المقاومة المبدئية لن تكتمل أمام جبروت الغرب وقوّته. ووفقاً لذلك، يجب الاكتفاء بمقولة "إنَّ للبيت ربّاً يحميه"، بدلاً من الدخول في حربٍ غير متكافئة القوى بعد انهيار الأنظمة، كما حدث في العراق وأفغانستان.
إنّ الشعوب العربية تعاني اضطراباً في المفاهيم والرؤى، واضطراباً في الفكر، فضلاً عن الذهان والهلوسة، الأمر الذي يجعلها تبتلع ما يقدّمه الإعلام كحقيقةٍ موثوقةٍ. والحال أنَّ نسبةً كبيرةً من "الميديا" العربية الأمينة لا تقدّم أيّ حقائق في موضوع الصراع العربي الإسلامي – الغربي. وفي أفضل الأحوال، تقدّم جزءاً قليلاً، وتخفي الجزء الأهم.
إنَّ المواطن العربي ضحيّة إعلامٍ رمى بنفسه في أحضان الغرب، ومثقفين تبضَّعوا في سوق البورصة العالميّ أو يعانون تصدعاً بسبب تعدد القضايا الطارئة.
وبالرجوع إلى القراءات الآنية للواقع، نجد أنّ عدداً من التنظيمات تمكّن من جبر هذا الكسر ورأب الصدع، إذ نجح في تأطير البيئة الحاضنة له، وبصَّر الأفراد بجديّة الأمر، شأنه في ذلك شأن حزب الله اللبناني وحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، فمقاومة السيد حسن نصر الله منعت تأليب الإعلام الغربي للمواطن اللبناني وغيره ضد مقاومته، ما أعطى حزب الله شرعية الوجود ومشروعية الردّ على أيّ عدوانٍ خارجيٍّ يستهدف لبنان والمقاومة.
هذا التحصين تأتَّى من خلال تأسيس المقاومة جناحاً سياسياً هو "كتلة الوفاء للمقاومة"، إلى جانب القنوات الإعلامية الحليفة لها.
في الجانب الفلسطينيّ، تتمتَّع حماس بشعبيَّةٍ منقطعة النظير، تجعلها في مأمنٍ من الدّعاية المزيَّفة أو اغتيال الشّخصية، إذ كسبت أصوات الناخبين وثقة القريب والبعيد، انطلاقاً من منهجها الوسطيّ المعتدل الَّذي لا يفرّط في الثوابت والقيم، فكانت مكامن قوّتها، إلى جانب بسالة جندها ويقظة رجالها وحنكة قياداتها، في إيمان الحركة بضرورة العمل السّياسيّ الَّذي وجَّه خطّ المقاومة إلى تجنّب التدخّل في شؤون الآخرين، ولزوم اعتماد سلطة الإعلام، بدءاً بصحيفة "الرسالة"، ثم تأسيس إذاعة الأقصى، وصولاً إلى تشييد قناة الأقصى الفضائيّة.
فما أفق استمراريَّة عبث الإعلام العربيّ بفكر المواطن وجعله غائباً عن ميدان العمل الفعليّ للدفاع عن قضاياه المصيرية، ومنها آنياً "صفقة القرن"؟
إنَّ الحرب الحالية هي حرب مصطلحات وإعلام. أدركت أميركا الأمر، فأطلقت على مشروعها لتصفية قضية فلسطين وإيجاد شرق جديد "خطَّة السلام"، فأيّ سلام سيتأتَّى من ضرب أولى مقدسات المسلمين والمسيحيين وسلب مقدراتهم وتحريف هُويتهم؟
هل ينتظر العرب، بقعودهم واستكانتهم وذلّهم، أن يرسل الله طيراً أبابيل على الأعداء، حتى نستعيد القدس وأريحا وتل الربيع وحضرموت، وحياة الأنفة والأرض والمآثر والمقابر والقمح والجمال والشِعر والقصائد وغيرها؟
إنّ الجواب جليّ وبَرج. إنَّ الله سيرسل طيور الأبابيل على العرب أنفسهم، لما أحدثوه من بدعٍ وضلالٍ وهوانٍ بأيديهم. وهذه سنَّة الله النافذة في كونه، والتي لا تجامل أحداً.
إنَّ السَّلام ممكن من خلال إيجاد صيغة عملٍ مشتركةٍ بين الشمال والجنوب، إضافةً إلى التثاقف وتبادل الخبرات، من أجل بسط العيش والحياة بسلام.