أميركا.. دولة الانحياز المطلق

ترى أميركا ضرورة لوجود "إسرائيل" وسط العالم العربي والشرق الأوسط عموماً، كقفّازات في مشاريع "فرّق تسد"، ومنصّة انطلاق في دأبها للسيطرة على أكبر جزء ممكن من العالم.

  • أميركا.. دولة الانحياز المطلق
    ترى أميركا ضرورة لوجود "إسرائيل" وسط العالم العربي كقفّازات في مشاريع "فرّق تسد" (أ ف ب)

حين نهمّ بالغوص في مُرتكزات القوّة التي تعتمد عليها "إسرائيل" لتثبيت وجودها في هذه المنطقة، والمُنعطفات الأساسية التي خاضتها دبلوماسياً وعسكرياً لهذا الهدف المنشود، يستوقفنا رأساً إسم الولايات المتحدة الأميركية في فاتحة الطريق. فعلى مدى سني هذا الصّراع الوجودي، كانت تعمل جاهِدة تحت الطاولة وفي العَلن لمُساعدة صديقتها الصّدوق، بل طفلها المُدلّل في المنطقة، الذي لا ينفكّ يكون وفيّاً جدّاً لسياساتها في الشّرق الأوسط.

ولا ننسى معاهدات السلام المُفترَض التي رعتها الولايات المتحدة بين العرب و"إسرائيل"، من "كامب دايفيد" إلى "واي ريفر" وأوسلو، فضلاً عن حلول بوش الجديدة إبّان أحداث أيلول/ سبتمبر في الولايات المتحدة. هنا، أدَّت أميركا دور طبيب التّخدير عند تطويعها وتنعيمها مفهوم وجود "إسرائيل" كأمرٍ واقعٍ في اللاوعي العربي على مستوى بعض دوله وأنظمتها الرّخوة، فضلاً عن كَسْر حاجز الخوف من ردود فعل شعوب هذه الدول ضد خطوات أنظمتهم حيال التّسليم ومفاوضة العدو الإيديولوجي الأكبر لهذه الشعوب، التي تعتبر العداء لـ"إسرائيل" من صُلب عقيدتها وانتمائها القومي كعرب.

مما ورد آنفاً، كان يمكن للولايات المتحدة بدورها الذي أدّته أن تدَّعي أنّها عرّابة السلام بين العرب، وخصوصاً الفلسطينيين، و"إسرائيل"، وأنّها لاعب خطّ الوسط الذي يقرّب بين الخطوط وينسّق تمرير المطالب والشروط من دون تصرّف. 

هذا الدّور تحديداً بدأ يظهر وجهه الحقيقي مع كلّ جولة حرب بين "إسرائيل" والعرب، ومع كلّ انتهاك إسرائيلي للقانون الدولي، حتّى الحقائق الصارِخة من مجازر لا خلاف حول الموقف حيالها من المنظور الإنساني البحت! ففي كلّ مرّة يتجرّأ فيها المجتمع الدولي المُتخاذِل حيال القضيّة الفلسطينيّة على أن يعلن موقفاً أو أن يتّخذ قراراً في الأمم المتّحدة ومجلس الأمن ضد "إسرائيل"، يُجابه رأساً بالرّفض و"الفيتو" الأميركي. هنا تظهر لنا كشمس الظهيرة حقيقة دور الولايات المتّحدة الأميركية في أنّها رأس حربة وزميل قوي لـ"إسرائيل" وليست لاعب وسط.

ترى أميركا ضرورة لوجود "إسرائيل" وسط العالم العربي والشرق الأوسط عموماً، كقفّازات في مشاريع "فرّق تسد"، ومنصّة انطلاق في دأبها للسيطرة على أكبر جزء ممكن من العالم، والمحافظة على مكانتها في النظام العالمي الذي تعدّ أحد أقطابه، أو رفع هذه المكانة. 

في المقابل، تحتاج "إسرائيل" إلى هذا الحليف لنشر الفوضى العارِمة في العالم العربي، للحفاظ على وجودها وقوَّتها بين أنظمة مُتهالِكة وشعوب جائِعة، ما يصرف النظر عن الصّراع معها، فالنظام المُتهالِك يحنو إلى التّبعية، وإلى فكرة تطبيع العلاقات مقابل ضمانات حماية وجوده ودعمه ضدّ الانهيار الداخلي، وضدّ وَهْم الخطر الدّاهم الذي تزرعه الولايات المتحدة الأميركية في وعيه، وهو "النفوذ الإيراني". هذه العلاقة مُتشابِكة المصالح، فهذا الحليف يدرّ المال أيضاً، من خلال بيعه الأسلحة اللازمة في صراع وجوده في المنطقة.

بعد الفوضى العارِمة في العالم العربي بما سُمّي بـ"الربيع العربي"، والتي بثّتها، أو على الأقل ركبتها، الولايات المتحدة و"إسرائيل"، بدأ المشهد العربيّ يغدو أكثر جهوزيّةً من أيّ وقت مضى لتطبيع العلاقات أو تظهير ما خفي منها مع هذا الكيان إلى العَلن.

وفي ظلِّ تردّي الوضع الاقتصادي لأغلب الدول العربيّة، ونشوء أزمات طالت الحياة اليومية لشعوبها، طفا على السطح تحقيق حلم الازدهار الاقتصادي والبذخ المالي من الولايات المتحدة مقابل التّسليم بوجود "إسرائيل" وسط العالم العربي، فضلاً عن مشكلة النازحين، وخصوصاً الفلسطينيين والسوريين الموجودين في لبنان والجوار، فهي أيضاً مادّة دَسِمة لوضعها في فلك الضغط، إلى جانب ورقة النموّ الاقتصاديّ.

أضف إلى ذلك موضوع النفط وتدخّل أميركا بكلّ مفصل فيه، وخصوصاً المُستجد منه، أي نفط لبنان المُفترَض. 

كلّ ما ذكر أعلاه يدور في فلك ما يُسمّى باتفاقيّة أو صفقة القرن، التي تروِّج لها الولايات المتحدة كحلٍّ جذري لقضية الصراع العربي الإسرائيلي، بحيث توضع كلّ الشروط والموجودات على طاولة المفاوضات والمُقايضات، بمُباركة أميركية على أعلى مستوى، وبإشراف صَهْر الرئيس ترامب جاريد كوشنر.

في حال صفقة القرن، يبدو الانحياز الأميركيّ أكثر تقدّماً وتجلّياً، بحيث يستوقفنا تصريح المبعوث الأميركي السابق إلى المنطقة، جايسون غرينبلات، والذي ذكر أنّ الإجماع العالمي والقوانين الدولية لا يمكنهما أن يحلّا الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وقد سبقه تصريح لدايفد فريدمن، سفير الولايات المتحدة في "إسرائيل"، بأنّ الأخيرة لها الحقّ في الاحتفاظ بجزء من الضفّة الغربيّة، وهذا كلّه استخفاف وانتهاك صارِخ للأعراف الدولية الحاكمة. 

إنّ "إسرائيل"، بأصل وجودها، تنتهك قاعدة "إمرة" في القانون الدولي، التي لا تسمح بحيازة أرض الغير بالقوَّة، وهي نفسها بالأمر العسكري الثالث الذي أصدرته بعد الاحتلال، وفي البند 33 تحديداً، تعترف بأنّ هذه الأراضي محتلّة، لكنّ بعض الأنظمة العربية قالوا "وإن"، وفتحوا أبوابهم وقلوبهم لـ"إسرائيل"، بل باتت الأخيرة هي التي تمنع وتسمح لمستوطنيها بزيارة الأراضي العربية، كالسعودية مؤخّراً.

إذاً، بانت الولايات المتحدة كحليفٍ واضحٍ لـ"إسرائيل"، وليست وسيطاً، كما السابق، في صفقة القرن، بما يعني أنَّ قبول العرب بمثل هذه الصفقة سيكون خضوعاً ذليلاً للخصم والحَكم، بحيث تسعى أميركا إلى إعلاء سقف المكاسب. فعلى سبيل المِثال، بما أوردته "الميادين" من بنود الصفقة، يلفتنا البند القائل أن ليس لدولة فلسطين "الجديدة" الحقّ في حيازة جيش، بحيث إنّ "إسرائيل" هي المولجة بحمايتها من الأخطار الخارجيّة، وغيرها من البنود التي تجبر فلسطين على ألا تكون دولة. هذا البند وغيره يظهر لنا مدى الأمل بجعل "إسرائيل" دولة صديقة، مما فيه منفعة لأطماع الولايات المتحدة في المنطقة بعد تصفية القضيّة وإراحة إبنها المُدلّل "إسرائيل".