هل أنهت إيران مفاعيل الغطرسة الأميركية؟
يعتبر رواد مواقع التواصل الاجتماعي أن الردّ الإيراني اليوم جاء نتيجة الضغط الشعبي الذي مارسوه عبر منصاتهم، وقد بنوا هذا التحليل لأنهم اعتبروا أن إيران كسرت قاعدة الصبر الاستراتيجي الذي استعملته في سياق تاريخها السياسي، وقررت الثأر لدماء الفريق سليماني بعد خمسة أيام فقط من استشهاده، وتزامناً مع اللحظات التي تمّ دفنه فيها.
فجر الجمعة 3 كانون الثاني/يناير 2020 قررت الولايات المتحدة الأميركية إيلام إيران والعراق بسلبهما قادة عسكريين وميدانيين لهم ثقلهم في العمل العسكري وفي الوجدان الشعبي كذلك، فاغتالت الشهيد الفريق قاسم سليماني، والشهيد الحاج أبو مهدي المهندس. شعوب المنطقة عاشت صدمة من جرّاء ضربة مؤلمة سلبتها قائدين دفعة واحدة على قاعدة أن "المصائب لا تأتي فرادى"، وطالبت بالثأر الفوري في أيّ مكان وجدت لها صوتاً في التظاهرات المنددة بالاغتيال، وفي التشييع الذي حضره ملايين الناس وعلى صفحات مواقع التواصل. كلٌ من على منبره ومن مكانه، طالب بالثأر والانتقام لدماء الشهداء، فهل كان الرد الإيراني اليوم استجابة لرغبة الشعوب بالانتقام؟
معروف عن القيادة الإيرانية أنها قيادة صبورة تتمهل في إصدار قراراتها وتتصرف وفقاً لمصالح شعوبها، ولا تتخذ قرارات عاطفية غير مدروسة. أثبتت ذلك بعيد إبرام الاتفاق النووي عام 2015 الذي أخذ سنوات من التباحث والتفاوض حتى تم، ووصفه كثيرون وقتذاك وبينهم الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما ، بـ "الاتفاق التاريخي" . ثم أثبتت القيادة الإيرانية صلابتها مرة أخرى عندما قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب عام 2018 إلغاء الاتفاق النووي، فقررت إيران اعتماد نظرية "الصبر الاستراتيجي". وبعد إلغاء إعفاءات ثماني دول في استيراد النفط في إيران، اعتمدت إيران سياسة "الضغط الاستراتيجي".
الاستراتيجية علم أيضاً لكنّه علم التخطيط والبحث؛ وتستعمل إيران هذا المصطلح في غالبية سياساتها، وعند اغتيال الفريق سليماني عوّل كثيرون على هذه الاستراتيجية، وقال محللون إن الرد الإيراني سيكون بعيداً جداً لأنه لا يخضع لمعايير العاطفة والتأثر بالحدث الآني القريب، وربما يأخذ سنوات لتقرر إيران التوقيت والمكان والزمان المناسبين، لكنّ الرد لم يتأخر. 5 أيام مضت على اغتيال الشهيد قاسم سليماني، وجاء الرد صبيحة اليوم الخامس، تزامناً مع دفن الشهيد بل سبقه أيضاً، كان الثأر ثم أتى الدفن.
لتوقيت الدفن دلالة كبيرة وكأن إيران أرادت أن تقول للعالم إن الردّ سيكون حتى قبل أن ندفن شهداءنا، وهذا ما اعتبره روّاد مواقع التواصل تجاوباً مع طلباتهم وصرخاتهم التي طالبت بالثأر منذ اللحظة الأولى واليوم الأول، فاشتعلت مواقع التواصل اليوم، واعتبر المغرّدون أن لوسومهم تأثيراً في القرار السياسي، وأن الرّد جاء بناءً على طلبهم، وأثنوا على القيادة الإيرانية التي كانت هذه المرة في صف الشعوب المنكوبة، شعرت بها، وعكست نبض الشارع الذي شعر بالظلم وطالب بالانتقام.
منذ اغتيال الشهيد سليماني لم تهدأ مواقع التواصل الاجتماعي عربياً وغربياً، وسوم تختلف وتتبدل كل ساعة تقريباً. تحليلات الناس في الواقع وعلى مواقع التواصل الاجتماعي لما حصل كانت غنية جداً، واستطاعت ابتداع أفكار قد يعجز عنها أصحاب القرار الفعليون. مخيلات خصبة قرأت وحللت وافترضت أحداثاً لها وجود أحياناً لكنها تُضخم أو يتم التقليل من أهميتها بحسب توجّه القارئ السياسي أو مزاجه العام، وانتشر الكلام المغلوط أحياناً أخرى، كما الشائعات التي صدرت على سبيل التسلية أو للتعبير عن الغضب، لأن ما يستطيع الناس كتابته قد لا يستطيعون قوله غالباً؛ ولو قيل فهو لن يخرج عن سياق الحديث غير المجدي والأمنيات غير القابلة للتحقق، وهذا هو سبب الكتابة "الإبداعية" التي ترافق كل حدث ضخم يحدث على الساحات السياسية، لأن الناس تستطيع أن تكتب لا أن تثأر، وتتمكن من القول، لا من الفعل، وهذا ما حصل عند استشهاد سليماني، طالب الكثيرون بضرب أميركا، والقواعد الأميركية العسكرية في جميع البلدان العربية، كما طالبوا بالثأر الفوري، وكلما تأخر الرّد ساعةـ، انتشرت الشائعات عن تسويات وتفاوض، أو عن ثأر ضخم ومزلزل.
لو جاء الردّ الإيراني تجاوباً مع ألالام الناس وصرخاتهم، أو أن له اعتبارات ودلالات أخرى في الحسابات الإيرانية، يبقى المؤكّد أن الضربة الإيرانية على قاعدة عين أسد العراقية اليوم أثلجت قلوب جميع المستضعفين في العالم، أميركا صاحبة التاريخ المليء بالحروب والجرائم الإنسانيةــ تُهدد، وتُضرب، وتخاف على مصالحها وقواعدها، ويقال لها بكل وضوح إخرجِ من منطقتنا، لا نريدك.
هذا التغيير أحدث انفجاراً في المفاهيم الباردة والظالمة المتعارف عليها بين الظالم والمظلوم، أعطت المستضعفين في جميع أنحاء العالم أملاً بالاستمرار، وسبباً جديداً للمقاومة التي تقول كل يوم أياّ كانت جنسيتها أن الحق ينتصر، ولو بعد حين.