كتاب مشبوه في مدارس لبنان.. "جغرافيا" غير بريئة
كتاب تم تبنيه في إحدى المدارس الخاصة في لبنان يثير نقاشاً تربوياً وسياسياً على خلفية وصمه المقاومة بالإرهاب وتشبيهها بـ "داعش".
من المُسلّم به أن كُتب التاريخ والجغرافيا- ولا سيما المدرسية منها- تتضمَّن عادة الكثير من الوقائع والروايات المُفبرَكة. نهج راسِخ وشائِع لم تستطع وزارات التعليم عبر العالم التخلّص منه رغم الاتفاقيات والمؤتمرات هنا وهناك.
السبب هو أن لهذه الكُتب خصوصيتها في حرب الروايات والصوَر والخرائط حيث غالباً ما يكون منوطاً بها تقديم ما هو جامع وتشكيل الاتجاهات وتعزيز الانتماء والروح الوطنية. بالتالي تخضع عملية إعداد وتجديد محتوياتها دائماً لعملية اصطفاء بما يتناسب والتوجّهات السياسية العامة لدولةٍ في زمن معيّن.
على هذا المنوال قد يبدو للوهلة الأولى أنه من الطبيعي أن يختزل كتاب لتدريس الجغرافيا تم تأليفه في فرنسا، المعنى المعرفي والوجداني للمقاومة في لبنان وفلسطين من خلال تشبيههما بتنظيم "داعش" الإرهابي. ولكن هل يوجد في هذا التشبيه الذي يسوّقه مؤلّفو هكذا كتاب تعليمي ما يدلّ على وجود علاقة ما- قريبة كانت أو بعيدة، قوية كانت أو ضعيفة- بين ما يكتبه بعض الأكاديميين والكتّاب الصهاينة ويروِّجون له عن المقاومة في الصحافة وبين الأوساط الأكاديمية الفرنسية والأوروبية.
في الوقت نفسه كيف يمكن التحرّك بشكلٍ منهجي ضد هكذا توصيفات أيديولوجية وأطروحات سياسية سخيفة لا تخصّ طلاب المدارس الخاصة اللبنانية فقط بل كل مواطن في العالم العربي والإسلامي وكل حر وشريف يعرف أن حزب الله وحماس هما حركتان وطنيّتان مقاومتان جعلا المقاومة نهجاً في وجه الغُزاة الإسرائيليين وقدّما تضحيات كبيرة لحماية الأجيال من كل طوائف المنطقة من مؤامرات الصهيونية التي تتوالى بلا انقطاع مُستهدِفة نواميسنا الاجتماعية والدينية والاقتصادية؟
الدافِع والغاية من وراء هذه المُقدّمة هو إصدار كتاب من 336 صفحة متوافر في إصدارين (ورقي والكتروني)، تم إعداده من قِبَل عدد من مُدرّسي الجغرافيا في أكثر من مدرسة وجامعة فرنسية، وطبع عام 2016 من قِبَل دار Belin للطباعة والنشر على شكل كتاب مدرسي موجّه لطلاب المدارس الثانوية في فرنسا. ولكن المشكلة هي أن الكتاب تم تبنيه في إحدى المدارس الخاصة في لبنان وتدعى "ملكارات" "Collège Melkart" والذي يعني إسم "إله مدينة صور" في العصر الفينيقي.
هذا الكتاب أثار، في الفترة الماضية، نقاشاً تربوياً وسياسياً داخل العديد من المؤسّسات اللبنانية، وبين الهيئات التعليمية والإدارية. وكان موضع تجاذب بين رأيين: الأول رأى أنّ الكتاب مُستورَد ولا دخل لإدارة المدرسة في ذلك. الرأي الثاني حمّل إدارة جمارك العامة في لبنان مسؤولية إدخاله من دون تقييم محتواه بشكل مُسبق.
بكل الأحوال من المفيد أن نشير أولاً إلى أنه لا توجد أية صيغة تربوية أو قانونية تلزم المدرسة بتبني هذا الكتاب من دون غيره حتى لو كان جزءاً من تمويلها يأتي عبر وكالة التعليم الفرنسي في الخارج (AFEF) لأن التشريعات التربوية الفرنسية والفلسفة المُتبّعة تكفل لمجالس المدارس والمعلمين الحرية في اختيار الكتاب المدرسي والمصادر الالكترونية لتطبيق البرامج التعليمية، وبالتالي قد يكون من المنطقي أن مجلس المدرسة الخاصة قد اطّلع على محتوى الكتاب قبل بدء العام الدراسي وعرف إن كان استخدامه أو وضعه بين أيدي الطلاب سيخدم العيش المشترك والذي هو في الواقع أحد الأهداف المُعلَنة على الموقع الرسمي للمدرسة.
أنا لست خبيراً في المسائل السياسية، ولكن تجاه هذه القضية التي أثيرها راجعت لبضعة أيام واستقصيت الكثير من المقالات التي تتطرَّق إلى موضوع المقاومة، وكان بينها مقالات منشورة في صحفٍ فرنسيةٍ وعربية، وقد لاحظت أنه وعلى الرغم من تزايُد عداء المجتمع الفرنسي تجاه الإسلام اليوم، فإن عدداً كبيراً من كتّاب فرنسا ومؤرّخيها وسياسيها المعاصرين لا يميلون بشكلٍ واضحٍ إلى اعتبار حزب الله وحركة حماس منظمتين إرهابيتين وبالتالي تبني وجهة نظر "إسرائيل" والولايات المتحدة.
بشكل دقيق الموضوع مجبول بالجَدَل، ولكن عندما تنظر عن كثب إلى خطابات وممارسات اللوبي الصهيوني في ما يتعلّق بالقضايا السياسية والثقافية التي تخصّ العالم العربي والإسلامي في فرنسا سندرك أنه ساهم بشكلٍ ملموس وعن قَصْدٍ في بلورة فكرة تشبيه المقاومة بـ"داعش".
من المعلوم أن فرنسا تضمّ أكبر جالية يهود في أوروبا وعدداً لا بأس به من الإذاعات والقنوات التلفزيونية والصحافة التي تعالج بشكلٍ يومي المسائل المُتعلّقة بالشرق الأوسط باللغة الفرنسية. هذا الإعلام يقول وينشر ما يريد عن المقاومة والإسلام والتاريخ.
غير أني أرى أن هناك سبباُ آخر ربما كان أبعد أثر في تبلور هذه الأطروحة في المجتمعات الغربية، هو ضعف إيماننا بقضايانا. إذ لا بد من أن نتذكّر- قرارات مجلس التعاون الخليجي ووزراء الداخلية العرب في السنوات الأخيرة ضد المقاومة بشقّيها السياسي والعسكري. على الرغم من أن هذه القرارات لا تمثّل غالبية الدول العربية إلا أن إثارتها في وسائل الإعلام كان لها صداها في أوروبا. وهنا يكمُن بالضبط الخطر الأكبر. لأن هكذا مواقف وقرارات خاطئة هي التي تهدم وتشوّه صورة المقاومة في الثقافة العالمية وتمنح الصهيونية وأذرعها الإعلامية الحجّة لتنفّر الرأي العام العالمي.
إن الاتفاقات والقرارات الدولية حول مسألة مناهج وكتب التاريخ والجغرافيا مُتعدّدة ومُثيرة للتقدير والإعجاب، فمنذ تأسيس عصبة الأمم عام 1920 حتى اليوم يمكننا أن نجد العشرات منها والتي وقعت بشكل علني ورسمي بين دولتين، أو مجموعة من الدول تترابط في ما بينها بروابط جغرافية وتاريخية بغية تنقية الكُتب المدرسية من العبارات التي تسيء للسلام والتفاهم بين الشعوب. على سبيل المثال اتفاقية البلدان الإسكندنافية عام 1919 والدول البلقانية 1930 والاتفاق بين الحكومات المتحدة البرازيلية والأرجنتين لعام 1933.
وهناك أيضاً منظمة اليونيسكو التي تهتم بطبيعة الحال بمسألة الكُتب المدرسية، ولا سيما كُتب التاريخ والجغرافيا والتربية المدنية، قد قدّمت نهجاً جديداً في تأليف هذه الكتب بعد الحرب العالمية الثانية ونظّمت في الواقع الكثير من الندوات والمؤتمرات وألزمت الدول الأعضاء بالكثير من المعايير والمبادئ والمُقترحات بغية التعاون وتنقية الكُتب المدرسية من العبارات والصوَر التي تضرّ بحُسن التفاهم والوئام بين الأجيال. وإذا أردنا أن نذكر أمثلة عن هذه المؤتمرات والمبادىء يمكن أن نذكر الكثير ولكن لعلّ أبرزها: مؤتمر اليونيسكو العام تاريخ 1974 واجتماع الخبراء في بريسبان- أستراليا عام 1991 ومؤتمر اليونيسكو بشأن التعليم من أجل السلام عام 1995 وبشأن التعليم المُشترك بين الثقافات عام 2006.
هذه المؤتمرات والندوات أقرّت الكثير من المبادئ التي تضمن للدول الأعضاء إذ ما وجدت بالكُتب المدرسية الأجنبية أية معلومات أو إشارات سلبية تمسّ هويتها وعيشها المُشترك حق الاعتراض والمطالبة بتعديلها أو حذفها نهائياً.
تمثل مبادئ اليونسكو مدخلاً مهماً يمكن استخدامه لحماية سمعة المقاومة وتراثها. واعتقد أن السلطات السياسية والتربوية في لبنان كما في فلسطين تستطيع الاستناد إليها والتحرّك في سبيل منع تمرير هكذا ادّعاءات زائِفة وصوَر نمطية عن المقاومة في الكُتب المدرسية الأجنبية. ولكن كل ذلك لا يمنع من أن يُدافع كل إنسان عن المقاومة حسب إمكانياته ويعتقد بها الاعتقاد الصحيح بعيداً عمّا يقول بعض العرب والعَجَم.