القضية الفلسطينية بين "ربيع العرب" وخريف القيادة
مع موجة التغيير التي اجتاحت العالم العربي في عام 2011 والمُسمَّاة "بالربيع العربي"، لم نعد نشهد هذا الحضور الواضِح للقضية الفلسطينية ولا للشعارات المُعادية لـ"إسرائيل" في الاحتجاجات الشعبية.
لعقودٍ مُتتالية، بقيت القضية الوطنية الفلسطينية والصِراع "العربي-الإسرائيلي"، الهمّ الأول والمحور الأساس- المركزي لنَبَض الأمَّة والشارع العربي. إذ كان يُرفَع شِعار التحرير والعدالة والمُطالبة بإنهاء الاحتلال عند كل تغيير أو مطلب سياسي، وفي كل ثورة أو انقلاب عسكري، وداخِل كل مواجهة كان يتطوَّع بها الشبّان من كل أرجاء الوطن العربي في العمل الفدائي الفلسطيني والعربي، حيث كانت تنتشر المسيرات وتعُجّ من المحيط إلى الخليج عند كل اعتداء إسرائيلي غاشِم، سواء على الشعب الفلسطيني أو العربي.
كان شعور التضامُن والوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني، بالإضافة إلى تصدّر القضية الوطنية الفلسطينية في سُلَّم أولويات الشعوب، بارزاً في كل المجالات وأروِقة الجامعات والمدارس، فتكاد لا تخلو أية مدرسة في سوريا، ومصر والعديد من الدول العربية من صورة المسجد الأقصى أو في بعض الأحيان من العَلَم الفلسطيني، بالإضافة إلى انتشار الأغاني والأناشيد الثورية الوطنية التي تُمَجِّد كِفاح الشعب الفلسطيني ومسيرته النِضالية.
مع موجة التغيير التي اجتاحت العالم العربي في عام 2011 والمُسمَّاة "بالربيع العربي"، لم نعد نشهد هذا الحضور الواضِح للقضية الفلسطينية ولا للشعارات المُعادية لـ"إسرائيل" في الاحتجاجات الشعبية، وتحديداً في برنامج الحكومات المُقترَحة المُعلَنة التي أعقبت "الربيع العربي"، والتي بدورها لم تنصّ ولو مرة على مبدأ المُقاطَعة، أو قَطْع العلاقات بينها وبين "إسرائيل". بل للأسف شهدنا تعزيزاً وتوطيداً لعلاقاتٍ مُعلَنة مِن قِبَل مُعارضين سوريين، وذلك من خلال توجيه رسائل سواء من رؤساء عرب أو من رجال دين، لطمأنة "إسرائيل" من آثارٍ وتداعياتٍ مُحتمَلة نتيجةً للتغييرات الحاصِلة في المنطقة.
هنا نُشير وننوِّه إلى خطبة جمعة الناتو، التي ألقاها رجل الدين يوسف القرضاوي والتي طمأن فيها "إسرائيل" في حال تم إسقاط النظام في سوريا. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، لماذا لم تكن القضية الفلسطينية حاضِرة في الربيع العربي والحكومات الناتِجة منه؟!
ارتباطاً وقياساً بالساحة التي أُعطيت في ثوراتٍ تحرّرية مُناهِضة للظُلم مثل الثورة الإسلامية الإيرانية بقيادة الإمام روح الله بن مصطفى بن أحمد الموسوي الخميني العام 1979م، التي رُفِعت فيها الأعلام الفلسطينية، وتمّ توجيه هجوم على السفارة الإسرائيلية ودعوة إلى قَطْعِ العلاقات معها ونَبْذ وتحقير لكل مَن يؤيِّدها، إذ كان الشعار السائِد آنذاك "الموت لإسرائيل" الذي كان مُتصدِّراً للهُتافات حينها واستمرّ حتى يومنا هذا.
أو مثل الثورة الهندية بقيادة الزعيم والقائد مهاتما غاندي التي كانت رافِضة ومُناهِضة للاستعمار البريطاني، وقطعت بدورها العلاقات الدبلوماسية مع "إسرائيل" كجزءٍ من إعطاء القضية الفلسطينية حيِّزاً ولو شكلياً. ومِثال آخر النشاط الثوري للقائد نيلسون مانديلا الذي بدأ عام 1950 واستمر إلى حين تعيينه رئيساً لجنوب أفريقيا عام 1994، هذه الثورة التي كانت أكبر وأهمّ ثورة تاريخية في جنوب أفريقيا، المُناهِضة لنظام الفصل العُنصري التي بدورها قامت وانتصرت ثائِرةً لحقوق الإنسان الأفريقي، والتي أيضاً قامت ودعت دوماً إلى قَطْعِ العلاقات مع "إسرائيل".
ومِثال أخير هو الثورة البوليفارية في فنزويلا بقيادة الرئيس هوغو تشافيز التي بدأت عام 1992 كمحاولة انقلاب والتي دعت إلى استقلالٍ اقتصادي وتوزيع عادِل للعائِدات، إضافةً إلى وضع حدِّ للفساد السياسي في فنزويلا، والتي أعربت عن تعاطفها الدائِم مع المُستضعَفين في قضايا العالم أجمع وتحديداً القضية الفلسطينية، فشهدنا على توتّر بشأن العلاقات الدبلوماسية بينها وبين "إسرائيل" ومحاولات السعي وراء مُقاطعتها نهائياً أولاً لكونها احتلالاً وثانياً لكونها ارتكبت أفظع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني.
يوم القدس من إيران ورسالة مرسي من مصر
لقد أعلن قائد الثورة في إيران الإمام الخميني عن يوم القدس في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان، وكان هذا الإعلان يهدف إلى رَبْطِ الثورة الإيرانية على المستوى الشعبي بالقضية الفلسطينية، حيث تحتشد الجماهير في هذا اليوم في الشوارع والميادين رافعين الأعلام الفلسطينية وحارِقين للعَلَم الإسرائيلي في المدن والقرى الإيرانية، وامتدّت هذه العادة السنوية في شهر رمضان إلى لبنان والعراق واليمن كشكلٍ من أشكال الاحتجاج في يوم القدس على استمرار وجود الاحتلال الإسرائيلي ودعماً وتأييداً لحقوق الشعب الفلسطيني.
أما في مصر أكبر دولة عربية والتي شكَّلت الركيزة الأساسية للأمن القومي العربي، فقد شاركت بالنصيب الأوفر في الدفاع عن فلسطين والعروبة منذ اندلاع الصِراع العربي الإسرائيلي عام 1948 وحتى عام 1973، حيثُ خاضت 5 حروب ضد "إسرائيل" [حرب عام 1948، العدوان الثُلاثي عام 1956، حرب أكتوبر عام 1967، حرب الاستنزاف التي امتدّت حتى 1970 والحرب الأخيرة العام 1973] واستشهد خلال هذه الحروب مئات الآلاف من المصريين في المعارك وذلك في سِياق الصِراع العربي-الإسرائيلي والقضية الفلسطينية.
بالمقابل، نجد غياباً واضحاً وتهميشاً للقضية الفلسطينية في ثورة مصر عام 2011، فلا الأعلام الفلسطينية رُفِعَت ولا الهُتافات المؤيِّدة للقضية الفلسطينية بشكلٍ جليّ سُمِعَت، باستثناء هجوم مُحتجّين على السفارة الإسرائيلية في مصر. فالثورة المصرية لم تعط القضية الفلسطينية حقّها، كما لم نشهد الالتفاف الشعبي المألوف والجامِع المُعتاد عليه في نَبَض الشارع المصري العربي للمُحتجّين والمُتظاهرين. ناهيك عن الرسالة التي وُجِهَت من الرئيس المُنتخَب آنذاك محمّد مرسي إلى الرئيس الإسرائيلي (شمعون بيريس) والتي كان مفادها طمأنتهِ إلى استمرار العلاقات بين الدولتين مُخاطباً إيّاه بكلمة "صديقي" بشكلٍ عَلَنيّ.
فلسطين في الثورة الإيرانية خلافاً للثورة المصرية
إذا أمعنا النظر في دولة مصر ودولة إيران نجد أوجه شبه مُتعدِّدة من الخصائص والمزايا المُشترَكة للبلدين، فمصر وإيران كلتاهما من الدول العريقة، أصحاب الإرث الحضاري الغنيّ والتاريخي، اللتان تمتلكان بذوراً ضارِبةً في تاريخ الشعوب. كان لكل منهما الدور الأساس في رسم التغيير سواء على المستوى الاقليمي أو الدولي. إضافةً إلى ذلك نجد أن أوضاعهما مُتشابَهة عشيَّة انطلاق الثورة فيهما، فقبل العام 1979 في إيران وعام 2011 في مصر، كانت كل من الدولتين تسير في رَكْب المشروع الأميركي في المنطقة، وعانتا من تدهورٍ اقتصادي-اجتماعي حاد خاصة وأن طبيعة وشكل وجود هذه الأنظمة (إيران قبل عام 1979، ومصر قبل العام 2011) مُعتادة على مُمارسة نهج لسيادة استبدادية تفتقر إلى أبسط المبادئ الديمقراطية والتعدّدية السياسية، إذ تتفشّى فيها شتّى أنواع وأشكال الفساد والظلم.
نقطة مُشتركة أخيرة هي الإرهاب الذي انتشر وحلّ في البلدين بعد سقوط كل نظام، بغضّ النظر عن الاختلاف في الأيدي التي دعت إلى ممارسة كل إرهاب سواء "مُجاهدي خلق" في إيران أو "داعش" وإخوانه في مصر.
بعد كل أوجه الشَبه في الواقع والظروف، في كلٍ من البلدين، نجد أن الفَرْق الناتِج والتغيير الحادِث في مسألة التعاطي مع القضية الفلسطينية، يُرجَّح أنه يعود إلى تدخّل وإقحام الفلسطينيين أنفسهم بالشأن الداخلي المصري، أو قد يعود إلى الانقسام الفلسطيني الداخلي.
لكي نُجيب على الأسئلة التي طرحناها أعلاه لا بدّ من أن نُدرِك جيداً ونتذكَّر بأن جزءاً لا بأس به من الثوّار الفلسطينيين قد اصطّف سياسياً وقاتل عسكرياً إلى جانب العراق وجيشه في حربه ضد إيران، الأمر الذي لم يُغيِّر أبداً من موقف وتعاطي إيران مع القضية الفلسطينية، ومساعدتها، ومساندتها والوقوف إلى جانبها.
من غير المُرجَّح اعتبار الانقسام الفلسطيني سبباً وعامِلاً من عوامِل تراجُع وعدم حضور القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني في ثورات "الربيع العربي" ومنها ثورة مصر عام 2011، لأن الثورة الفلسطينية عاشت انقساماً عام 1983 ووصل الأمر إلى مواجهاتٍ عسكريةٍ بين فتح بقيادة الرئيس ياسر عرفات وفتح الانتفاضة بقيادة أبو موسى، وكذلك أيضاً اتفاقية أوسلو عام 1993 التي أحدثت انقساماً سياسياً واسعاً وخِلافاً بين مكوِّنات الحركة الوطنية الفلسطينية، حيث أن المُواجهات والخِلاف الفلسطيني الداخلي سابقاً كان يُعبَّر عنه بانقسام حول النهج السياسي والتحالفات الاقليمية والدولية، والعديد من ذلك لم يؤثّر على موقف ودعم إيران الثورة للقضية الفلسطينية.
تشابهت الظروف فما سبب الاختلاف؟
يمكن ترجيح سبب الاختلاف بالأسماء التالية: "الإمام الخميني"، "غاندي"، "تشافيز"، "مانديلا"، أو في المُختَصر القيادة الثورية الواعية الواضحة والمؤثِّرة، حيث تميَّزت الثورة الإيرانية بهذا النوع من القيادة التي تمتلك نهجاً لاستراتيجيةٍ ورؤية واضحة سواء داخلياً أم خارجياً، تُشكِّل بدورها جزءاً مهماً كبوصلة عداء لـ"إسرائيل" وتضامناً مع الشعب الفلسطيني وحقوقه وشرعيّة نضاله ضد الاحتلال، بينما مصر الثورة أو حتى ما يُسمَّى بـ"الربيع العربي" بشكلٍ عام لم تمتلك رؤية واضحة داخلية وخارجية بعد التغيير، حتى بإدارة التغيير وفق خطّة مرسومة، وهذا الأمر يحتاج إلى قيادةٍ واضحةٍ، حكيمةٍ، واعيةٍ ومؤثّرةٍ تصنع الفرق وترسم استراتيجية لتقود نحو التغيير.
فإذا كانت الثورة نفسها لا تمتلك هذه القيادة التي تُحافِظ على مُنجَزاتها، كيف لنا أن نطلب منها الدفاع عن قضايا الأُمَّة؟
اليمن قيادة وقضية واضِحتين
نجح اليمن في تشكيل نموذج في "الربيع العربي"، إذ كان للقضية الفلسطينية في الثورة اليمنية، حيِّزاً أكبر ونطاقاً أوسع مُقارَنةً بجميع الثورات العربية في المنطقة، حيث امتازت الثورة اليمنية عن باقي الثورات العربية بقيادتها الواضِحة التي عبَّرت عن العداء لـ"إسرائيل" ونُصرة وتأييد القضية الفلسطينية بشكلٍ ملحوظ خلال كل فترة الثورة والعدوان السعودي الإماراتي على اليمن. كما يمكن أن نجد في النموذج اليمني حجَّة جديدة على دور القيادة الثورية العربية في إعطاء القضية الفلسطينية مركزيّتها حتى في الثورات ضدّ الظُلم والفساد لتصبح الثورة جزءاً من الصِراع العربي-الإسرائيلي.
الخاتِمة
عندما طُرِح السؤال لماذا لم تكن القضية الفلسطينية حاضِرة في "الربيع العربي"؟ لم يكن القَصْد البحث عن المصلحة الفلسطينية فقط، بل كان تساؤلاً عن حقيقة ما جرى في الوطن العربي، هل كانت ثورة أم احتجاجات أسقطت أنظمة من ورق؟ ولإدراك الأمر المُشترَك بين القضية الفلسطينية وحقيقة الثورة في "الربيع العربي،" تكمُن الإجابة الراجِحة بمعنى الثورة التي تنبع من الشعور بالتضامُن الجماعي الذي يصنعه الوعي والإدراك لمُناهَضة الظلم والقهر، الذي يدفع بدروه إلى التغيير نحو الأفضل، فأيّ تضامن جماعي يكون مع الفئات المظلومة إذا لم يكن إنسانياً؟ فكيف لي أن أهتف "عيش، حرية، عدالة اجتماعية"، ولا ألتفت إلى الحدود الشرقية التي يسكن جوارها شعب عربي مُحاصَر لا يمتلك قوت يومه لأنه فقط سعى إلى الحرية؟
ففي كل من الحالين يجب أن يكون هناك دافع قوي للتضامن ورفض شتّى أنواع الظلم. وأخيراً يظهر السبب الراجِح لهذا السؤال بغياب القيادة الواعية، المؤثّرة والواضِحة التي تقع على كاهِلها كل مسؤولية النظر إلى الصورة الشامِلة، وقراءة الخارِطة السياسية كما يجب، لبناء رؤية بعيدة الأمَد ضامِنة لمُستقبلٍ واعدٍ للشعوب العربية، الأمر الذي افتقدناه في "الربيع العربي"، ما خلق أثراً سيّئاً سلبياً على الدول العربية عامةً، وعلى القضية الفلسطينية خاصةً.