"شو خصنا نحنا": سردية الضيف (1)
إن القضية المركزية، قضية فلسطين، ليست مجرد خلاف سياسي، بل هي صراع وجودي تتحدد فيه الهوية ويحدد مستقبل للأمة العربية، وعلينا بالتالي البقاء في حالة استنفار ويقظة تامّين لمواجهة هذا العدو، عبر كل الوسائل الممكنة.
المعركة اليوم بين العرب والإسرائيليين لا تشبه الحروب العادية بين الدول، لأنها ليست حرباً بين تجمع دول ودولة أخرى، وإنما هي حرب العرب في وجه كيان محتل توسعي استيطاني، وفي وجوه أسياده والدول التي وراءه.
1. لماذا حرب العرب مع "إسرائيل"؟
2. لماذا ليست حرب غزة وحدها؟
3. لماذا "إسرائيل" ليس دولة؟
كل هذه الأسئلة مشروعة ولها إجابات علمية بعيدة عن العاطفة، لكن الشرح يتطلب قليلاً من الصبر مع المحافظة على عقل منفتح وبعيد عن التحيزات الفكرية المسبقة والانحيازيات العاطفية التي نحملها.
حرب "العرب مع إسرائيل" حرب بين الأمة العربية وعدوها عبر الوكيل الإسرائيلي
الحرب مع "إسرائيل" هي صراع بين أمة عربية ذات إرث تاريخي وحضاري موحد، على الرغم من أنها اليوم مجزأة نتيجة اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، وبين احتلال استيطاني يبدو ظاهرياً ذا طبيعة دينية، لكنه في الواقع ينفذ دوراً عسكرياً وأمنياً وسياسياً لمصلحة الغرب الإمبريالي.
كما أصبح واضحاً، فإن النكسة العربية بعد حرب 1967 وحرب أكتوبر الشهيرة، واستسلام مصر السادات عبر اتفاقية السلام عام 1977، مضافاً إليها الدعم القوي من القوى العظمى لـ"إسرائيل"، كلها دفعت البعض في العالم العربي إلى التعامل مع "إسرائيل" كأمر واقع. وبدلاً من اعتماد الكفاح المسلح سعت هذه الدول لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية خاصة بها، ولجأت إلى التطبيع المباشر. في المقابل، هناك كيانات ومجموعات أخرى رفضت هذا الواقع الجديد، واستمرت في مراكمة الخبرات والقدرات دفاعاً عن حقها المشروع في الكفاح المسلح.
نتيجة لمشروع التطبيع هذا، الذي قاده الأميركيون لمصلحة "إسرائيل" بهدف تثبيت وجودها وضمان حمايتها واستمراريتها، وعلى رغم العداء التاريخي لـ"إسرائيل"، والمتجذر في وجدان العرب وخياراتهم السياسية، فإنه تم تأسيس هياكل اقتصادية تجعل من الصعب على الدول العربية المطبعة التراجع عنه أو اتخاذ أي موقف سياسي معادٍ لـ"إسرائيل". لقد بُنيت هذه الهياكل الاقتصادية في الدول المطبعة بصورة تؤثر في اقتصادها وأمنها الوطني، وبدعم وضغط أميركيَّين، كما حفظت المدخرات الفردية لحماية الاتفاقيات المتبادلة من قيادات سياسية وأمنية في يد الأميركي ويد الإسرائيلي.
فإذا نظرنا مثلاً إلى الوضع الحالي للإمارات لنصفه، نجد أن الاقتصاد الإماراتي مرتبط بصورة كبيرة بالشركات الأوروبية والأميركية، بينما تتبع الجامعات والمدارس في الإمارات نماذج تعليمية غربية. فلو أراد الغرب "تفكيك" الإمارات مثلاً فهو قادر على تحقيق ذلك من خلال فرض عقوبات تؤدي إلى انهيار الاقتصاد الإماراتي واستنزافه حتى آخر بترودولار. والموضوع نفسه ينطبق حتى على السعودية، وإن لم تطبع رسميا، فكيف يكون كيان سياسي حراً، وأمن حاكميه الخاص في أيدي شركة بلاك ووتر، ونحن بالغنى هنا عن التعريف ببلاك وتر.
الجيش المصري هو الآخر يعتمد، بصورة كاملة، على البنتاغون في تدريبه وعقيدته القتالية وعتاده وعدته وقدراته، بينما تقوم الدولة المصرية، بحسب اتفاقيات دولية، ببيع غازها الخام لـ"إسرائيل" وتعود لتشتريه منها بآلاف الدولارات، في حين كان يمكن أن يكون هذا الهدر مصدر دخل وطني قومي يعيد مصر إلى مقدمة الدول العربية، من حيث القدرات ومستوى المعيشة.
ومثالاً على ذلك، تعاقدت شركة "غاز شرق المتوسط" التابعة للحكومة المصرية مع شركة الكهرباء الإسرائيلية "إلكتريك كورب" في عام 2001، لتوريد 7 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً إلى “إسرائيل”، لمدة 15 عاماً، بأسعار تتراوح بين 0.75 و1.25 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، بينما كان خط الغاز نفسه يتجه نحو الأردن وسوريا ولبنان بسعر مغاير لكل دولة، بحيث كانت سوريا ولبنان يحصلان على الوحدة نفسها في مقابل 5.5 دولارات.
وعندما ألغت مصر الاتفاقية بصورة نهائية عام 2012 حدث نزاع تحكيم دولي بين "تل أبيب" والقاهرة، انتهى بحصول "إسرائيل" على تعويض بقيمة نصف مليار دولار عام 2019.
الجيش الأردني بدوره يعتمد بصورة كاملة على المملكة البريطانية من أجل المحافظة على الحكم، بالإضافة إلى قضية الوصاية الهاشمية على الضفة الغربية والقدس الشرقية، حتى قيام دولة فلسطينية. بعد فك الارتباط عام 1988، باستثناء المقدسات المسيحية والإسلامية، والاعتراف بمنظمة التحرير وصية رسمية حتى اتفاقية أوسلو المشؤومة، كان للأردن دور حاسم بفضل الرعاية البريطانية.
بإيجاز، أدى التطبيع المباشر وغير المباشر ومفاعيله إلى تحويل أعرق الدول العربية إلى حراس عند الوكيل الإسرائيلي، الذي يحفظ مصالح الأميركيين ومصالح حلف الناتو في المنطقة، وهذا هو السبب في تخلف حكامهم وشلل أيدي أبنائهم عن مواجهة العدو وحمل لواء الكفاح المسلح، أو أقله دعم قوى المقاومة الفلسطينية.
لماذا ليست حرب غزة وحدها؟
علينا بداية إعادة قراءة الوجود الإسرائيلي بصورته الفعلية، وليس كما صُورت "إسرائيل" لنا على أنها "دولة" ديمقراطية ومسالمة، بل هي "دولة" استيطانية توسعية تطمح دوما إلى تجاوز حدودها لتصبح "إسرائيل" الكبرى. وما حال دون وصولها إلى هدفها ليس سلميتها، بل استمرار المقاومة في فلسطين وفي البلاد العربية والإسلامية، والتي كان أبرزها في العقدين الأخيرين المقاومات، إسلامية الطابع، عبر تعدد تشكيلاتها ورموزها، بحيث كانت دائماً بالمرصاد، سياسياً وعسكرياً، وتجسدت هذه المقاومة في مواقف تاريخية متعددة.
"إسرائيل الكبرى" كانت تهدف إلى توسيع نفوذها بصورة مباشرة عبر احتلال أراضٍ فلسطينية عربية إضافية وتهجير أهلها وقتلهم، وإبدالهم بمستوطنين يهود من كل أنحاء العالم. كما سعت "إسرائيل" لقيادة المنطقة عبر وكلاء لها، كحركات سياسية وعسكرية رديفة لتلك التي انحازت نحو التطبيع، فكان مشروع "داعش" شكلاً من أشكالها الأساسية، وهي ليست الحركة الإسلامية الأولى التي تقودها الاستخبارات الإسرائيلية في سوريا والعراق ولبنان بهدف إسقاط قوى المقاومة وخطوط إمدادها.
تحطم حلم المشروع التوسعي الإسرائيلي في لبنان بعد اجتياح عام 1982، وتم طرد الإسرائيليين عام 2000 من هذه الأرض اللبنانية العربية حتى "الخط الأزرق"، ومن دون أي اتفاقيات، علماً بأن "الخط الأزرق" هو خط هدنة وليس حدوداً دولية معترفاً بها. كما تحطم حلم "إسرائيل الكبرى" في آخر محاولة للأميركي عبر حرب الوكالة لتدمير سوريا في محاولة إنهاء دورها في إمداد القوى المقاومة وإنهاء دورها العروبي وتقديمها فريسة إلى الوكيل الأقوى في المنطقة، "إسرائيل"، على طبق من فضة. وعند الحديث عن تدمير سوريا، يكون المقصود هنا سوريا المعقل العربي لمقاومة "إسرائيل" ومشاريع التفتيت، بغض النظر عن الشأن السوري الخاص الذي يعني الشعب السوري الذي حارب، جيشاً وشعباً ومقاومةً، لمواجهة المشروعين الأميركي والأطلسي في جميع أنحاء البلاد.
بإيجاز، المعركة بين العرب و"إسرائيل" ليست مجرد صراع سياسي أو إقليمي، بل هي مواجهة وجودية تهدف إلى حماية الهوية العربية من مشروع استيطاني توسعي مدعوم من القوى الإمبريالية، الأمر الذي يتطلب وحدة المقاومة والدفاع عن الكرامة والسيادة العربية في كل بقعة من الأراضي العربية.