حراك لبنان بين غوغائيّة الثوّار ومُكر الأحزاب
هكذا أضحت مطالب الحراك ضبابية يُناقِض أحدها الآخر، وصار المطلب الاقتصادي ثانوياً والخشية بأن يذهب أدراج الرياح لتحلّ مكانه الأهداف الحزبية.
"غالباً لا تنهي العملية الثورية دورتها إلا وقد أصيب جزء من المشاركين فيها بالخيبة وكأنه قد تمّت خيانتها من مجموعة أو مجموعات حقّقت مكاسب خاصة من الثورة وقدَّمت تنازلات للخصوم من نوع الحلول الوسط"، هذا ما يخلص إليه الدكتور شبيب دياب في كتابه سوسيولوجيا النزاعات.
في 17 من تشرين الأول/ أكتوبر انتفض اللبنانيون ونزلوا إلى الساحات بطريقةٍ عفويةٍ احتجاجاً على رسومٍ وضرائب جائِرة، بعدما ضاق ذرعهم من استشراء الفساد وترسيخ المُحاصصة في كل صغيرة وكبيرة.
تعاظمت الاحتجاجات وكسر اللبنانيون حاجز الخوف ما أربك السلطة. وجدت الحكومة نفسها مُرغَمة على تقديم التنازُلات فوضعت حلولاً إقتصادية ضمن ما سمَّته بالورقة الإصلاحية، لكن الشارع اللبناني المُنتفِض فَقَدَ الثقة بقرارات الحكومة واستمر المُتظاهرون في احتجاجاتهم مطالببن السلطة بحلولٍ جذريةٍ تضمن معالجة حقيقية للوضع الاقتصادي.
تزايد زُخم التظاهُرات وتضاعفت الأعداد حتى غدا حراكاً شعبياً مُهيباً يجمع مختلف المحافظات اللبنانية المتنوّعة جغرافياً وطائفياً.
في البدء كانت المطالب اقتصادية واجتماعية صرفاً. تدريجاً طغت الحماسة الثورية على الواقعية عند البعض فرفعت شعارات صعبة المنال وسُمِعت بعض الأصوات الدخيلة المنفرة، لكن جموع الحراك كانت كفيلة بنبذها وإخراجها.
في تلك الأثناء ثارت ريبة معارضو الحراك بعدما استقال وزراء حزب القوات اللبنانية من الحكومة، فخلعوا رداء السلطة وانخرطوا في الحراك من باب المعارضة ونصب محازبوهم أنفسهم طلعاء الثوّار في شوارعهم بعدما وجدوا استحالة في الإندماج مع أهل الحراك الحقيقيين في ساحتيّ رياض الصلح والشهداء وغيرها من الساحات الثائِرة بحق.
عندها، أضحى الحراك مقسوماً بين مناضلين شرفاء وبين مشبوهين مُتسلّقين حتى التبس الأمر على مُناصري الأحزاب ولم يحسنوا تمييز الصالح من الطالِح فاستسهلوا شيطنة الحراك.
عَمَدَ المُتظاهرون إلى قطع الطرقات كوسيلةٍ للضغط على السلطة لتحصيل حقوقهم، وتصرّفوا بشكلٍ سلمي في البدء ولكن السلطة لم تكترت لمطالبهم، فاستمروا في قطع الطرق من دون أن يلتفتوا إلى المخاطر الناجمة عن ذلك، وكان متوقّعاً أن تتوقّف هذه الظاهرة بعد استقالة رئيس الحكومة، إلا أن المراهقة الثورية دفعتهم إلى الاستمرار وانضمّ إليهم مناصرو تيار المستقبل في بعض المناطق، فاستغلّ قطّاع الطرق المُنتفعين الوضع ووجد الحزبيون من روّاد الحرب الأهلية -أبعدها الله عنا- بقطع الطرقات فرصة ذهبية لإحياء أمجادهم.
بعد مضيّ عدّة أيام انقسم أهل الحراك في ما بينهم، رفض بعضهم مبدأ إغلاق الطرقات ولازم ساحاته وبدأ بصناعة الوعي عبر ندوات ثقافية تطرح النقاشات لإيجاد المُعالجات للقضايا الاقتصادية والسياسية والإجتماعية، بينما استمر البعض من مُنظّري الحراك المُغالين الذين يدورون في فلك بعض جمعيات المجتمع المدني المُثيرة للرَيبة بسياسة قطع الطرقات، مُشرّعين الباب للاستغلال الحزبي المشبوه، حتى أضحى الحراك اليوم مُبتعداً عن أهدافه الرئيسة، وباتت الجهات السياسية المشبوهة أكثر فاعلية في المشهد العام مُستفيدة من تراكُم خبراتها في التعنيف و"التشبيح".
تقتضي الواقعية أن يكون أهل الحراك أشدّ حِرصاً على السِلم الأهلي وأكثر تفهّماً لحاجات الناس، فكيف لمواطنٍ يُطالب بحقوقه المشروعة أن يحرم سائق التاكسي الذي يكسب قوت يومه بيومه بحرمانه التنقّل للاسترزاق، وكيف يرضى مَن يُطالب بالاستشفاء المجاني أن يمنع مرور سيارة مريض السرطان للوصول إلى المشفى لأخذ علاجه.
ربّ قائلٍ إن نجاح "الثورات" يستلزم التضحيات وهذا وجع آنيّ مُبرَّر للوصول إلى مُبتغى "الثورة" وتحقيق رفاهية المجتمع، وهذا الكلام منطقي لو أنه اقتصر على بضعة أيام إنما امتداده لفترةٍ طويلةٍ نسبياً بعد مرور شهر على الحراك أصبح مؤذياً ومُحرّكاً لثورةٍ مُضادّة.
حينما يطول أمَد "الثورة" من دون قيادة واضحة وأهداف جامِعة تتحوّل الروح الثورية إلى حال غوغاء هدَّامة تدفع البعض إلى العُنف والتخريب، وهذا ما بتنا نرصد إرهاصاته خلال المواجهات بين المُتظاهرين والجيش والمُتظاهرين والأهالي المُتضرّرين، بات لكل مجموعةٍ في الحراك أولوياتها الثورية منها مَن يرى إسقاط العهد مُنطلقاً، ومنها مَن يُحدّد أولويّته بعودة الرئيس الحريري لترؤس الحكومة، عِلماً أن قرارات حكومته هي التي أشعلت الثورة وغيرها من الأولويات.
هكذا أضحت مطالب الحراك ضبابية يُناقِض أحدها الآخر، وصار المطلب الاقتصادي ثانوياً والخشية بأن يذهب أدراج الرياح لتحلّ مكانه الأهداف الحزبية. فإذا تزايدت مشاهد الاشتباك مع القوى الأمنية وبناء الجدران العازِلة بين المناطق ستخرج الأمور عن السيطرة وستتغيّر المطالب الشعبية ليصبح السِلم الأهلي الأولوية فيجدّدون العهد لنفس القيادات التي أنتجت أزمتهم، مُضافة إليهم شخصيات من المجتمع المدني آيلة للفساد مقابل الأمن والأمان، حينها سيُصاب اللبنانيون بالخيبة والإحباط خاصةَ أولئك الذين آمنوا بقدرة الحراك على التغيير لأنهم سيجدون أن تضحياتهم ونضالهم راحت هباءً منثوراً.
الإصلاح لا يزال مُمكناً بتنقيح المطالب ورفع الشعارات المُمكِنة القابِلة للتنفيذ من دون الإضرار بالمكوّنات الاجتماعية واستثارة العصبية. فالأولوية يجب أن تكون تحصين القضاء واستقلاليّته لتُطبَّق القوانين بحزمٍ من دون تدخّلات سياسية، وبذلك يصبح مُمكناً أكثر من أيّ وقتٍ مضى أن يُحاسَب الفاسدون وتُستعاد الأموال المنهوبة وتُستردّ الأملاك البحرية، فلا قيمة لأعظم القوانين طالما أن القضاء عاجز وليُحقّق الحراك أهدافه بالمُراكَمة.