لماذا تنهار المؤسسات التي تستخف بصحة موظفيها النفسية؟
كان اونيل جاداً في تحسين إجراءات السلامة، وفي بداية عهده أولى اهتمامه الرئيسي للسلامة الجسدية والنفسية للعاملين في شركته، وتدريجياً ارتفع منسوب الرضا الوظيفي والشعور بالأمان والانتماء عند العاملين. وأثبت بول أونيل في تجربته الإدارية أن الاهتمام بصحة الأفراد الصحية والنفسية كفيلة في رفع معدلات الإنتاجية وقادرة على تحقيق أهداف الشركة الربحية.
في صيف العام 1987 دخل المستثمرون وأصحاب الأسهم في شركة "الكوا" إلى القاعة الرئيسية لسماع كلمة المدير التنفيذي الجديد، "الكوا" التي تعد أكبر منشأة لتصنيع الألمينيوم في أميركا، وكانت تعاني من تراجع حاد في الأرباح، كان الصحافيون كما المستثمرون يتوقعون خطاباً تحديثياً ملهماً يرتكز على نظريات الإدارة والريادة العصرية، لعله يعيد أمجاد الشركة لترتفع أرباحها من جديد.
استهل بول أونيل خطابه قائلاً "أود أن أحدثكم عن سلامة العمال في مصنعنا، يصاب عمالنا سنوياً بإصابات بالغة مما يجعلهم يغيبون عن العمل. إن سجلات السلامة تفيد بأن نسبة إصابات العمل في شركتنا أقل من المعدل العام، بالرغم من أن موظفينا يعملون على آلات صلبة ويتعرضون لدرجات حرارة مرتفعة، لكنني أرغب في أن تكون "الكوا" الشركة الأكثر سلامة والتي لا يتعرض موظفوها لأي إصابات في العمل".
سخر الإعلاميون من خطاب أونيل وخاب أمل المستثمرين، فالرجل لم يأتِ على ذكر الخطط الاستراتيجية، ولم يتحدث عن آليات زيادة الربحية، لا بل تجنب استخدام المصطلحات الإدارية العصرية، واقتصر كلامه بالتركيز على موضوع سلامة العمال. استهزأ محللو "وول ستريت" بمضمون كلمة أونيل، واعتبروها إعلاناً لبداية نهاية أسطورة "الكوا".
تعمد أحد الحاضرين إحراج المدير الجديد فسأله عن خطته لزيادة قيمة الأسهم السوقية فأجابه "صحة الأفراد العاملين في شركتنا هي المؤشر الوحيد بأننا على الطريق السليم لنمو وتفرد الكوا".
كان اونيل جاداً في تحسين إجراءات السلامة، وفي بداية عهده أولى اهتمامه الرئيسي للسلامة الجسدية والنفسية للعاملين في شركته، وتدريجياً ارتفع منسوب الرضا الوظيفي والشعور بالأمان والانتماء عند العاملين فصاروا يبالغون في الحرص على العمل فزادت تلقائياً إنتاجيتهم مما انعكس على الأداء العام للشركة كماً ونوعاً، فتضاعفت الأرباح وفي أقل من عام واحد على تعيينه، ارتفعت أسهم الشركة محققة أرباحاً قياسية، وتعاظم نمو الشركة عاماً تلو عام حتى بلغت قيمتها السوقية 27 مليار دولار حين تقاعده في العام 2000، علماً أنها كانت 3 مليارات حين استلامه لمنصبه.
أثبت بول أونيل في تجربته الإدارية أن الاهتمام بصحة الأفراد الصحية والنفسية كفيلة في رفع معدلات الإنتاجية وقادرة على تحقيق أهداف الشركة الربحية، فحينما يلمس الموظف حرص إدارته الحقيقي عليه كفرد فاعل في مكان عمله ويدرك أهمية دوره الوظيفي وفاعليته في دورة الإنتاج، سيتأصل انتماؤه للمؤسسة ويجتهد لتحقيق أهدافها. وأيضاً برهن أن خطابات المديرين الجذابة المزينة بعبارات التقنيات الإدارية المستحدثة لا تجدي نفعاً، فأثرها آني وقصير إذا لم تولي الأهمية لصحة الأفراد الجسدية والنفسية، وبيّن أن آراء المحللين والمستثمرين المبنية على قراءة البيانات وتحليل الأرقام ليست سوى تكهنات تخطئ أحياناً.
"إن مكان العمل هو البيئة الرئيسية التي تؤثر على صحة الأفراد النفسية والعقلية"، هذا ما خلصت إليه دراسة أعدتها منظمة الصحة العالمية. أثبتت الدراسة بأن الإجهاد الوظيفي يتسبب في أضرار صحية خطيرة ويمكن أن يزيد من معدلات الإصابات والحوادث المرتبطة بالعمل. ويرى أخصائيو الصحة النفسية بأن أسباب الإجهاد المرتبط بالعمل متعددة وأبرزها الإرهاق الوظيفي، وعدم وجود تعليمات واضحة من قبل المشرفين، ووضع مواعيد غير واقعية لتسليم العمل، والتأخر في اتخاذ القرارات الإدارية، وغياب الأمن الوظيفي، وظروف العمل الضاغطة، والمراقبة الإشرافية المشددة، وغيرها من الإجراءات التنيظيمية العقيمة. وتؤكد الدراسة بأن أثر الاضطرابات النفسية في العمل لا يقتصر على الأفراد إنما يتسبب بالأضرار الجسيمة لأداء المؤسسة الكلي فيعمد بعض موظفي المؤسسات التي لا تراعي الصحة النفسية في منظومتها إلى التغيب والتقصير في الدوام، بينما يواظب الموظفون الآخرون على الالتزام بدوامات العمل ولكن تتدنى إنتاجيتهم بشكل كبير، فيضحي وجودهم شكلياً وهذا ما يجعل المؤسسة تتقهقر سيما أن أنظمة الرقابة الإدارية التقليدية تحاسب المخلين بدوامات الحضور والانصراف بيد أنها لا تكشف الموظفين الموجودين غير الفاعلين إنتاجياً.
إقرأ أيضاً: فوبيا الثقوب: اضطراب نفسي أم مجرد شعور وهمي؟
معظم المديرين في المؤسسات العربية يجهلون أهمية السلامة الصحية لموظفيهم وأثرها على ازدهار وديمومة عملهم. ففي ظل التطور التكنولوجي وسطوة الذكاء الاصطناعي في أماكن العمل، أضحت الوظائف الروتينية مهددة بالاندثار وباتت استمرارية المؤسسات مرتبطة بقدرتها على الابتكار والإبداع مما يتطلب من الأفراد العاملين تميزاً نوعياً في الإنتاج، الأمر الذي لا يمكن توفره إلا في ظروف عمل صحية وسليمة. تؤكد الدراسات وجود علاقة مباشرة ووثيقة بين الصحة النفسية والإنتاجية في المؤسسات. فمن غير الممكن للموظف الذي يعاني من التوتر والإحباط أن يحافظ على نشاطه وإنتاجيته المعهودة، ومن الطبيعي أن يفقد تدريجياً روح المبادرة والمشاركة، ليتحول إلى شخص سلبي، وحينما تصبح بيئة العمل مسممة سيغلب على موظفيها طابع التذمر والسوداوية مما يؤدي إلى تراجع المؤسسة لتخرج شيئاً فشيئاً من السوق.
إن الإدارة الناجحة تسعى لوضع أطر ومعايير تكفل وجود بيئة سليمة للعمل، وتهتم بالصحة النفسية لموظفيها ابتداءً من الشرح الدقيق لرؤية وأهداف المؤسسة والهيكلية الإدارية والتوصيفات الوظيفية التفصيلية التي تحد من المحسوبية والاستنسابية والتنمر في المجتمع الوظيفي، وتشارك الإدارة الرشيدة موظفيها في القرارات الكبرى كي لا يكونوا مجرد أدوات تنفيذية، إنما يصبحون شركاء فاعلين ومؤثرين في استراتجيات وأهداف المؤسسة.
لكن وبواقعية، لا نرى أن تغييراً وشيكاً في العقلية الإدارية في مجتمعاتنا العربية، لذا يقع على عاتق الأفراد تحصين أنفسهم كي لا يصابوا باضطرابات نفسية في العمل، وذلك بالابتعاد عن الزملاء السلبيين ووضع مسافة مع رؤوسائهم المتنمرين، والالتزام بمهامهم الوظيفية من دون زيادة ولا نقصان، وأيضاً عليهم فصل العواطف عن العمل وممارسة الرياضة الجسدية والذهنية للتخلص من الشحنات السلبية وتداعيات الضغط والتوتر في العمل.
المصادر:
تشارلز دويج، كتاب قوة العادات
خطاب الرئيس التنفيذي لشركة ألكوا - بول أونيل- الأمر كله يتعلق بالسلامة https://www.youtube.com/watch?v=tC2ucDs_XJY
منظمة الصحة العالمية، الصحة لنفسية في بيئة العمل، https://www.who.int/mental_health/in_the_workplace/en/
ميليسا بوبونيا ومارك وودن، دراسة اكاديمية لجامعة استرالية بعنوان" الصحة العقلية والإنتاجية في العمل: هل ما تفعله مهم؟"