كورونا يؤسّس لنهجٍ جديدٍ في عالم الأعمال
وقف هنري أمام بائع الآلة وقال "سأتحدّى آلتك بنفسي، فلنقم بسباق في تحطيم الصخور وإن فزت فلترحل أنت وآلتك البخارية" فقبل بائع الآلة التحدّي.
جون هنري واحد من آلاف العمال الذين شاركوا في إنشاء السكك الحديدية في الولايات المتحدة، جون شاب أسمر البشرة، قوي البنية ومفتول العضلات. كان يتمتّع بمهاراتٍ فريدةٍ إلى جانب عزيمته الأسطورية ممّا أعطاه قدرة جبّارة للقيام بعمله القائم على تحطيم الصخور. في العام 1870 بدأت صناعة الآلات البخارية تتسلّل إلى المجتمع الصناعي، وقرَّر أحد المساهمين ابتكار آلة لحفر الصخور. طابت الفكرة للأوصياء على السكك الحديدية نظراً إلى سرعة الآلة في الإنجاز والربح المادي الناجم عن تسريح العمال وتقليل الرواتب.
ارتاب العمال من الفكرة خشية أن يتم الاستغناء عنهم ويحرموا سبب العيش، فهذه الآلة كفيلة بالقضاء على مئات الوظائف. غضب جون من الفكرة: كيف لآلة صمّاء أن تقضي على مئات العائلات؟! وكيف لها أن تحل مكان إنسان من لحمٍ ودمٍ؟!، هذا محال. وقف هنري أمام مُصنع الآلة وقال له "سأتحدّى آلتك بنفسي، فلنقم بسباق في تحطيم الصخور وإن فزت فلترحل أنت وآلتك البخارية" فقبل بائع الآلة التحدّي.
في بداية السباق كانت الغَلَبة للآلة ولكن سُرعان ما استجمع جون قواه مدعماً بتشجيع زملائه وراح يضرب الصخور بمطرقته بقوّةٍ وسرعةٍ، فكانت الصخور تتطاير في الهواء وكأن السماء تمطر حجارةً، وقبل أن يصل هنري إلى نهاية السباق مُنتصِراً خارت قواه ولفظ أنفاسه الأخيرة جرّاء الجهد المُفرط الذي قام به.
هكذا قهرت الآلة كبرياء الكادحين وفرضت سطوتها في الحياة العمالية. يخشى الإنسان بطبعه كل جديد يخرجه من منطقة راحته، يجبره على تغيير عاداته وسلوكياته الوظيفية حتى لو كان هذا التغيير أكثر نجاعةً للاقتصاد وللبشرية بشكلٍ عام. في القطب لم تستغ المجتمعات دخول الآلة عالم الصناعة والزراعة وآثرت عدم تبنيها. نظر معظم الناس للآلة كما رأها جون هنري ورفاقه تهديداً خطيراً على مستقبل العمال، إنما هذا الرفض لم يحل من دون الاعتماد عليها من قِبَل المصانع الضخمة والتكتلات الاقتصادية الكبرى. بعد الحرب العالمية خفت صوت معارضة دخول الآلة إلى عالم الأعمال في سبيل تسريع عَجَلة الإنتاج وتطوير الاقتصادات المثقلة بفعل الحروب والصراعات الدولية. فأضحت أداة تنافُسية فعّالة في عالم الأعمال. واقتنع الناس تدريجاً بأنها حاجة ضرورية للتقدّم الصناعي والزراعي والتجاري. فطوَّر العمال مهاراتهم الفكرية والعلمية كي يُجيدوا التعامُل مع الآلة التي لا تحتاج إلى الكثير من الجهد الجسدي بقدر ما تحتاج إلى العِلم والمعلومات.
في الثمانينات دخلت الحواسيب عالم الأعمال من دون استثناء لأية قطاعات اقتصادية، فغزت قطاع الخدمات، حتى وكالات المحاسبة والمحاماة اضطرت إلى إدخال الحاسوب إلى أعمالهما. فالمهام التي كانت تتطلّب عمل 4 موظفين في يوم عمل كامل، بات الكومبيوتر قادراً على إنجازها بوقت قياسي. وخرجت دراسات عديدة حذّرت من خطر الحواسيب على ديمومة العمال ورأت أن من شأنها رفع معدلات البطالة إلى أشكال قياسية.
ولكن مع الوقت تبيّن أن دخول الأجهزة الإلكترونية عالم الأعمال رفع مستوى الإنتاجية كمّاً ونوعاً ولم يتسبّب زيادة البطالة إنما أعاد هيكلة الوظائف والمتطلّبات الوظيفية وأجبر المؤسّسات على وضع خطط تطوير مهارات وبناء قدرات عمالهم وموظفيهم لضمان أكبر قدر من الفعالية.
وفي يومنا هذا لم تعد الحواسيب موضع نقاش فأصبحت جزءاً رئيساً من الحياة اليومية بعدما صغر حجمها وأصبحت على شكل هاتف ذكي، ولم تعد محصورةً بالمؤسّسات التجارية، إنما دخلت في المدرسة والجامعة والمستشفى وفي كل القطاعات والأماكن، متنوّعة أسباب استخدامها المهنية والشخصية، أحياناً للعمل والدراسة وأحياناً أخرى للترفيه والتواصل حتى أصبح من الصعب ان تتخيّل العالم من دون هاتف ذكي.
عزيزي القارئ، هل فكّرت كيف كان الناس يقضون أوقاتهم أو يسيّرون أعمالهم في الحجر المنزلي بسبب جائحة كورونا لولا وجود الهاتف الذكي والجهاز اللوحي ووجود الأنترنت؟!
في الوقت الذي أكتب فيه هذا المقال من منزلي بسبب وباء كورونا، يجلس إبني ذو السنوات العشر في غرفته مشاركاً في صف الرياضيات عبر جهازه اللوحي كحال جميع زملائه في الصف، وتجلس زوجتي معلّمة اللغة الإنكليزية في غرفة أخرى تشرح لطلابها قواعد اللغة عبر الفيديو، وأرى الطلاب يتفاعلون معها بسلاسة وكأنهم في صفٍ عادي.
إنها دورة كاملة من العمل أنجزت من المنازل من دون حاجة للذهاب إلى مقر العمل!. هذه حال معظم الناس اليوم الذين أجبرهم الوباء التزام المنزل فوجدوا أنفسهم يقومون بكامل عملهم من منازلهم بنفس الزخم المعهود..
العمل من المنزل ليس أمراً جديداً فقد مارسه الموظفون منذ زمن طويل، وخير مثال "الفريلانسرز" أولئك الذين يتعاقدون مع المؤسّسات ليقوموا بأعمال معينة من دون إلزامية التواجد في مكان العمل فيعملون من بيوتهم أو من المقاهي وهذا النوع من العمل لم يتعد 10% من نسبة العمالة قبل انتشار فيروس كورونا، لكن الأرقام الآن تشير بأن النسبة اليوم تفوق 60%.. وهناك أيضاً مؤسّسات عالمية اعتمدت نظماً إدارية مبتكرة وهجينة تدمج بين العمل في مقر المؤسّسة والمنزل.
يؤكّد خبراء الإدارة أن الطريقة الفُضلى لقياس الأداء الوظيفي مبنية على المخرجات والإنجازات التي يقدّمها الموظف وليس عدد ساعات العمل التي يقضيها في المؤسّسة. ووفق موقع "فلكسجوبز" المُتخصّص، فإن العمل من المنزل يرفع الإنتاجية ويزيد المخرجات بشكلٍ عام. وهذا ما توصلت إليه "الميادين نت" في استطلاع أجرته على عدد من رواد مواقع التواصل ("العالم في الحجر"... كيف تحصد إنتاجية أفضل بالعمل من البيت؟).
ويدحض موقع "فليكسجوبز" ادّعاء معظم المدراء بأن العمل من المنزل يُشتّت الموظف لأنه يكون أكثر عرضة للإلهاءات والأمور التي لا علاقة لها بالعمل، إذ قام الموقع المذكور باستبيان لأكثر من ثلاثة آلاف موظف ليتبيّن بأن 93% من الموظفيين يزعمون أن إنتاجيتهم تكون في أوجها حينما يقومون بعملهم من خارج مكان العمل سواء قاموا به في المنزل أو في المقهى، و 26% من العيّنة المذكورة ينجزون المهام المطلوبة من خارج المقر، ويأتون إلى أماكن عملهم شكلياً التزاماً بشروط المؤسّسة الإدارية بضرورة التواجد في المقر.
وفي الواقع نجد أن مكان العمل يكون في كثير من الأحيان بيئة مناسبة لتضييع الوقت خاصةً في المؤسّسات التي لا تضع مؤشّرات واضحة للأداء، ولا تعطي أولويتها للمخرجات والإنتاجيات، فيبدأ بعض الموظفين نهارهم بتصفّح حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي والرد على متابعيهم، ثم ينضمّون إلى زملائهم لشرب القهوة ويجرون الأحاديث الجانبية ويشاركون في اجتماعات عمل طويلة من دون جدوى ناهيكم عن استراحات الفطور والغذاء وسواها.
فرضت كورونا على إدارات المؤسّسات الإذعان لإجراءاتها والسماح للموظفين بالعمل من المنزل.
حال بعض المديرين التقليديين كحال جون هنري حينما رفض الآلة من دون أن يحاول تطويعها لصالحه، فهم يحسبون أن غياب الموظف عن ناظرهم يعني فشلاً إدارياً ويعتبرون عدم حضوره على الدوام تقاعساً ويهملون قياس الإنتاجية وحُسن أداء المهام بمواقيتها.
لكن ما نفع الالتزام بالحضور طالما تكون النتائج مُخيّبة؟!. وجد هؤلاء أنفسهم يخوضون غمار هذه التجربة رغماً عنهم واضطروا أن يعقدوا اجتماعاتهم عبر التطبيقات الرقمية، وأن يكلّفوا موظفيهم بالمهام بشَكلٍ إلكتروني. ربما لم تأت كل النتائج بشكلٍ مثالي لأن التجربة لا زالت في أولها لكنها حطّمت حواجز كثيرة حتى الساعة، ولا ريب بأننا سنشهد تغييراً كبيراً في أنماط الأعمال والوظائف مستقبلاً، من ناحية تغليب الإنجاز والأداء على القيود الوظيفية الرتيبة وستكون الغلبة للنماذج المُبتكَرة والمرنة التي تدمج بين العمل الوظيفي في المقر والعمل الحر من البيت أو خارجه بمُراعاة التوازن بين العمل والحياة الشخصية.
التحوّل والتطوّر يحتاجان في كثير من المراحل المفصلية إلي صدمات عالمية كبرى كالحروب العالمية أو أزمات اقتصادية ضخمة، والآن هذه الجائحة برغم شناعتها سيخرج العالم منها مُنتصراً وستؤسّس لنهجٍ جديدٍ في عالم الأعمال وسترسي أنماطاً جديدة في الإدارة.