التحرير المغيَّب.. غزة 2005

من باب واجبنا في تصويب البَوصلة، نقول إن المنطقة المحرَّرة العربية هي غزة، والمقاومة العربية الوحيدة هي المقاومة للاستعمار الغربي وعملائه حصراً. 

  • تحرير غزة عام 2005 هو انعتاق أول بقعة من كامل خريطة فلسطين عبر استنزاف الجيش الصهيوني
    تحرير غزة عام 2005 هو انعتاق أول بقعة من كامل خريطة فلسطين عبر استنزاف الجيش الصهيوني

عندما تتلقّى الجيوش الاستعمارية الخسائر والضربات الموجعة، والتي تُجبرها على الانسحاب، تبرز عند قادتها العسكريين والسياسيين أهمية نقطتين جوهريتين. الأولى هي أنه، وإن كان صحيحاً أننا هُزمنا وسنخرج جارِّينَ أذيالَ الخيبة وغيرَ قادرين على تحقيق أهداف الغزو والاحتلال، أو التحكُّم في مجريات الأرض، فإنَّ علينا التحكُّمَ في كيفية إخراج السردية التاريخية والصورة الإعلامية لهذا الانسحاب، من خلال إظهار أننا أولاً انسحبنا من موقع القوة، وثانياً على نحو طوعيّ. وإن لم نستطع، فسنقوم بلوم العملاء والمتعاونين معنا، بأنهم لم يقوموا بواجبهم على أكمل وجه.

فطوال تاريخ الحروب الأميركية، وتحديداً تلك التي تلت الحرب العالمية الثانية، نجح الجيش الأميركيّ في تبنّي هذا النمط، وخصوصاً عند الانسحاب من العراق عام 2011. وهو الآن، يحاول جاهداً _ ويفشل في كلِّ مرة _ ترتيبَ الخروج من أفغانستان. فكل رئيس أميركي يتصدَّر برنامجَه الانتخابي هذا الإعلان، ثم يفشل في تحقيقه. وهو الأمر ذاته الذي يؤخِّر نهاية العدوان على اليمن، بحيث إن السعودية تريد ترتيب الإخراج، إعلامياً وسياسياً، لإنهاء الحرب، كي لا تظهر في مظهر المهزوم، وإن كانت تعي أنها هُزمت. 

تشكّل فيتنام، في التاريخ الأميركيّ، المثالَ الأبرز على خروج فاشل، يُجبر الآلة الإعلامية العملاقة للولايات المتحدة، بالإضافة الى السياسيين الأميركيين، على وسم فيتنام بـ"الغلطة". وفي السياق ذاته، أفشل الجيش الفنزويلي، مع مجموعة من الصيادين، قبل عام، عمليةَ إنزال بحري شارك فيها عملاء مع عدد من الأميركيين، وسمّاها الرئيس مادورو متهكِّماً عملية "رامبو"، في إشارة الى سلسلة الأفلام الدعائية الأميركية التي مثّلها سلفستر ستالون. وفي مؤتمر صحافي، سُئل وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو عن الدور الأميركيّ في هذه العملية، فأجاب بأن لا دور لهم، ولو كان لهم دور لكانت الأمور مُغايرة. وليضحك بغرور ويضحك معه الصحافيون الأميركيون، المهنيون والموضوعيون. فغرض بومبيو في النهاية هو تثبيت صورة رامبو للجيش الأميركي، والتي أهانها الصيادون الفنزوليون قصارُ القامة والسُّمر. 

في الصراع العربي الصهيوني، كانت الديناميكيات متعددةً، فتم إخراج هزيمة عام 67، عربياً وغربياً، بأكبر من حجمها، أو بأقل. فبدلاً من استيعابها، عملت الأنظمة العربية ونخبها المناوئة لعبد الناصر ومشروعه، على النفخ في مفاعيل الهزيمة. أما حرب عام 73، وعلى الرغم من التضحيات والبطولات، التي قدَّمها الجنديان العربيان السوري والمصري، فحمَّلتها الطبقات الحاكمة، المصرية على وجه التحديد، فوق ما تحتمل، لمآرب انتهازية.  

بعد حرب تموز/يوليو 2006، كشفت وثائق "ويكيليكس" أن وليّ عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، قال في لقاء مع الأميركيين "إن علينا أن نشوّه صورة الانتصار، فالجماهير العربية ترى فيما حدث انتصاراً". فكما حدث خلال أيار/مايو 2000، فشل الجيش الصهيوني في تشويه الانتصار، وفي إخراجه في صورة أنه انسحاب طوعيّ، أو لينسحب مخلِّفاً بنيةً مؤسساتية من العملاء تعمل كحاجز صدّ، فكان اندحاراً لجيش الغزاة بلا قيد أو شرط. فعندما نسَّم أيار/مايو 2000 بالتحرير، فإن بيت القصيد كان أننا صنعنا للجيش الصهيوني وعملائه بيئة عمليات مقاومة وطاردة، تكون فيها الخسائر أكبرَ من المنافع، على نحو يُجبره على الخروج.

بين تحرير الجنوب وتحرير غزة المغيَّب

بعد احتلال غزة عام 67، كان النقاش الإسرائيلي حينها ضمن المعضلة الصهيونية المتعلقة بالأرض والسكان، أي أن هنالك مشكلة للصهاينة عند احتلال أراض جديدة، مفادها أن قاطنيها من العرب يبقون فيها، ليكون ضمن الاقتراحات عمل نقل وترانسفير لمليون غزاوي يومها الى سيناء، وهو اقتراح لا يزال يدغدغ المخيال الصهيوني حتى اليوم. 

وكغيرها من البقع التي يحتلها العدو، كالضفة اليوم، وجنوبي لبنان وسيناء المصرية في الماضي، بدأ الصهاينة بناء المستوطنات، وتسييجها كالقلاع، لتصل الى 21 مستوطنة، ولتشكّل ما يربو على 30% من مساحة غزة، وليبدأ الاحتلال هندسة غزة جغرافياً، وتقسيمها وفصلها من خلال المعابر والحواجز. ولصغر مساحتها، تم تقسيم بعض الشوارع زمانياً، لتُفتح في أوقات محدَّدة للعرب ليستخدموها، وكل ذلك لضمان أمن المستوطنين. وتصف حاجّة غزاوية ذاكرتها عن تلك الحقبة في خان يونس بالقول "كانت هذه المنطقة مستعمرة نستاريم لليهود منقدرش نجيها خالص، كنا نوقف على الحواجز لثلاث ساعات". وهذا حرفياً ما يحدث في الضفة والقدس المحتلة اليوم. 

عام 2005، وضمن التخريجة الإعلامية للصهاينة، أطلقوا على عملية اندحارهم وانسحابهم "عملية فك الارتباط"، في محاولة لعدم تكرار خطأ جنوبيّ لبنان من ناحيتين: التأكيد أن الانسحاب تمّ من موقع القوة، والثاني هو دعم تسليم غزة الى حكم العملاء من دون تكرار خطأ جيش لحد. وكِلا الأمرين فشلَ. فالمستوطنون في غزة، وكعادة الغزاة الصهاينة شُذّاذ الآفاق، رفضوا الخروج، حتى بيّن لهم الجيش أنه لن يتمكن من حمايتهم من الضربات المستمرة للمقاومة، وأن عملية بسط جيش الاحتلال سيطرته على غزة مستحيلة، وأن الجيش يُستنزف تحت ضربات المقاومة. فتمّ نقل المستوطنين الى الداخل المحتل، وما يسمى غلافَ غزة، ودفع تعويضات جمة لهم. ويقول أحد المستوطنين الأوروبيين، بعد أن سلَّم بأنه يجب أن يرحل، في دليل على العقليتين الاستعمارية والاستشراقية، في آن واحد، "لقد بنينا هذه الجنة الخضراء في وسط الصحراء، وسنذهب الآن لنبني مثلها في مكان آخر".

أمّا الفشل الآخر، فهو في دعم بسط سلطة متعاونة مع الاستعمار، كما حلّ في الضفة، لينجح خيار المقاومة في الفوز في الانتخابات، وفي طردها. لتصل غزة الى أسوأ سيناريو يمكن أن يتخيله العدو: أرضاً محرَّرة يحكمها المقاومون، فاضطر إلى حصارها على خانق، ليكسب عبر ذلك التضييق عليها من جهة، وليعمل، من جهة أخرى، على تشويه _ وإلغاء _ تصوُّرها عن غزة؛ المنطقة الفلسطينية الأولى المحرَّرة منذ النكبة،  وجعلها غزة المحاصَرة. 

وللأسف، تمَّ تمكين هذا التصور، وحتى من ناحية العطف على غزة وأهلها، وتصويرهم على أنهم مساكين، لا حول لهم ولا قوة، وهم مجرد ضحايا. بيد أنه لا يصح إلاّ الصحيح، لتُثبت لنا غزة، من قبل الحصار كما من بعده، وخلال أربع حروب، أنها ليست فقط أرضاً محرَّرة، بل رافعة للتحرير أيضاً. 

خاتمة

للمصطلحات أهمية كبرى في صَوْغِ الوعي. لذلك، نرى أن مريدي الولايات المتحدة، والمعتاشين على الاحتراب الأهلي العربي، يتعمَّدون تمييع مصطلحاتنا العربية، فـ"المناطق المحرَّرة" في القاموس السياسي الحالي، هي مناطق عربية محرَّرة من عرب آخرين. والمقاومة كما "المقاومة الجنوبية" في اليمن، هي مقاومة أخيك العربي. ومن باب واجبنا في تصويب البَوصلة، نقول إن المنطقة المحرَّرة العربية هي غزة، والمقاومة العربية الوحيدة هي المقاومة للاستعمار الغربي وعملائه حصراً. 

خلال مَسيرات العودة، برز أحد المشاهد لطفل عَبر السياج وهو يبكي ويصرخ "أنا داخل فلسطين، أنا داخل فلسطين". علاقة الطفل الغزاوي بالمحتل مُغايرة، فهو لا يسمع العبرية، ولا يرى مستعمِراً ولا يخالطه، بل يصعب عليه تخيُّلُ كيف تعاني سائر المناطق من المخالطة اليومية. مشهد ذلك الطفل يعكس علاقته بالحيّز الجغرافي. فما خلف السياج وما بعده، كِلاهما ضمن فلسطين. لكن فلسطين في غزة، لأنها أرض محرَّرة مغايرة في مخياله عن فلسطين ما بعد السياج، تلك غير المحرَّرة.

تحرير غزة عام 2005 هو انعتاق أول بقعة من كامل خريطة فلسطين عبر استنزاف الجيش الصهيوني وعتاده، سواء بالعبوات، أو بالكمائن، أو بالتسلّل إلى المستوطنات. وعلى التاريخ أن يسجِّل ذلك، وعلى الأجيال أن تغرس ذلك في ذاكرتها، وهو النموذج التاريخي الناجح، والذي يجب علينا العمل على تكراره، على امتداد فلسطين.