يوم القدس من الخليج
لقد مثّلت عشرية النار الأخيرة أكبر محاولات القضاء على مقاومتنا، كعرب وفلسطينيين، من الخليج إلى المحيط، وأكثرها شمولاً، فماذا يملكون في جعبتهم بعد كلّ هذه الحروب والاقتتال ومحاولة إلهائنا عن قضيّتنا الأساس؟
"4. صاحب مطعم في أبو ظبي".. ضمن قائمة المتبرّعين للجبهة الشعبية، التي نشرتها مجلّة "الهدف" في السبعينيات.
"لا يكفي فقط يوم القدس. نحن نحتاج إلى أسبوع فلسطين".. الشهيد نمر النمر
للمؤرّخة الفلسطينية الراحلة روزماري سعيد تقسيم للشبكات والوصلات التي تربط بين المجتمعات والدول الخليجية والمجتمع الفلسطيني. وفقاً لسعيد، تتخذ روابط الخليج بفلسطين شكل المثلث. يمثّل الضلع الأول فيها وحدة اللغة والثقافة والتاريخ (أي القومية العربية)، فيما يمثل الضلع الثاني الإسلام والمكانة الدينية للقدس والمسجد الأقصى. أما الضلع الثالث، فهو، كما تبيّن، أشدّ تأثيراً من الضلعين الأولين، فهو الّذي يؤثّر كمّاً ونوعاً، سلباً وإيجاباً، في ديناميكية هذه "العلاقة المثلثية"، وهو دور القوى الغربية، ابتداءً من بريطانيا حتى النكبة، ثم الولايات المتحدة بعد ذلك، كوريثة للقوى الاستعمارية القديمة.
انطلاقاً من هذا التقسيم، تمظهرت مجمل العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وخلال عقود الصراع العربي الصهيوني، كشكل من أشكال التفاعلات بين الأضلاع الثلاثة، بيد أن الضلع الحاكم إلى اليوم هو تحولات مشروع الولايات المتحدة في الوطن العربي من ناحية الشكل.
هذا الواقع التاريخيّ هو الّذي يميّز طبيعة التفاعلات بين الخليج وفلسطين، سواء الرسمية أو الشعبية، بشكل يجعلها مختلفة عن العراق أو اليمن أو دول الطوق، وصولاً إلى المغرب العربي، إذ إن المكانة الاستراتيجية لدول الخليج مع مختلف القوى الاستعمارية، من الموقع الجغرافي لشبكات مصالح الإمبراطورية البريطانية والممرات البحرية والجوية مع الهند، إلى اكتشاف النفط ودوره في الاقتصاد العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة.
وعليه، كما فعلت روزماري لتفصيل طبيعة هذه التفاعلات، وحتى نفهم آليات عمل دول الخليج تجاه فلسطين، علينا أن نحيلها إلى جذرها الأساس، وهو السياسة الأميركية في غرب آسيا، لتكون للولايات المتحدة، وفقاً لسعيد، ركيزتان، هما المملكة العربية السعودية وكيان العدو الإسرائيلي، في ما أسمته "الركيزتين التوأمين".
وبعيداً من إعادة السرد التاريخي للدور السعودي في المنطقة، وتقاطعه الدائم مع الدور الصهيوني تحت المظلة الهائلة للمشروع الأميركي الاستعماري، إن الغرض الأساس هنا هو فهم شكل هذه "العلاقة المثلثية" اليوم ومآلاتها.
الضلع الأول: العروبة
خليجياً، وفي تكرارٍ للمعادلة الساداتية للتطبيع، توازت مع موجات التطبيع هندسة اجتماعية منظمة مرعية من الدول، لبثّ الهويات الانعزالية وتمكينها. بكلام آخر، الانتقال من مرحلة التأطير الحدودي القطري للدول العربية إلى تجسيدها إطاراً هوياتياً، فتكون للإماراتي والقطري والسعودي هوية وطنية منفصلة تسفر عن مصالح "خاصة" وشؤون "داخلية"، والمضحك المبكي "قرار سيادي".
وعليه، إن الضلع الذي تمثله اللغة والثقافة والتاريخ يتعرض لهجمة غير مسبوقة. وبعيداً من الرومنسيات، فإن أثر هذه الهجمة كبير جداً، فما لم تكن الأغلبية الشعبية العربية في الخليج قد انسلخت حتماً، فالمؤكد هو تسيّد شريحة فاعلة ذات مضمون طبقي معين للخطاب الانعزالي. ولهذا التسيّد أثر سلبي تجب مواجهته.
الضلع الثاني: الإسلام
أدى الإسلام دوراً مهماً في العلاقة بين المجتمع الخليجي وفلسطين، سواء كان ذلك لأسباب طبيعية متعلقة بالمكانة الدينية للمقدسات المتمثلة بالمسجد الأقصى وقبة الصخرة، وخصوصاً بعد احتلالهما في العام 1967، أو من خلال الجهد الذي تبذله السلطة السعودية لإسباغ طابع ديني على الصراع العربي - الصهيوني.
لهذا الأمر بعدان؛ الأوّل أن المكانة الدينية للسعودية، نظراً إلى وجود الحرمين في مكة والمدينة، سخّرت للسلطة ورقة الدين كنوع من الشرعية الداخلية والشعاع والمكانة العابرة للحدود. أما الآخر، فهو تقاطع التسخير الأميركي لهذه الورقة سعودياً في مواجهة الشيوعية، مع استخدام الورقة ذاتها سعودياً، في ظل التنافس الخطابي للعديد من الأنظمة العربية تحت شعار "الصراع مع العدو".
أما اليوم، فتتعدّى المسألة ضمور هذه الورقة، في ظلّ حالة من الانحياز إلى الخطابات الليبرالية من قبل الطبقات الحاكمة الخليجية، بل تمت إعادة توجيه دفة الخطاب الديني من صراع ضد "اليهود" إلى سلام ومحبة وتعايش بين الأديان "الإبراهيمية". وما كان خطابياً صراعاً دينياً هو اليوم ترابط ذو طابع ديني، واستمرارية للاستخدام نفسه للدين من قبل الحكام والشيوخ، في ظل إعادة إنتاج نسخة جديدة تتناسب زمانياً مع هذه المرحلة.
الضّلع الرئيسيّ الثالث: العلاقة مع أميركا
عمليات التحوّل في الضلعين الأولين ترتبط مباشرة بالقرارات والتحولات الأميركية، بيد أن النقطة الرئيسية هنا، وحتى يسعنا الانطلاق منها لاستشراف المستقبل، هي محاولة فهم زوايا هذا الضلع، فالزاوية الأولى تتعلّق بانحدار المكانة الاستراتيجية الخليجية بالنسبة إلى الولايات المتحدة، بسبب ضمور فوائد النفط. وبالعودة إلى التوأمة التي ذكرتها روزماري، ففي حين انتفت الركيزة النفطية، لم تجد الطبقات الحاكمة في الخليج سوى اللجوء إلى حضن الركيزة الأميركية الأخرى في المنطقة، وهي كيان العدو. وضمن حسابات تتعلق بأمنها الطبقي، أي أمن عروشها، يكون الشعب الفلسطيني حرفياً، ومن دون مبالغة، كبش الفداء وأضحية تقدم لواشنطن للحفاظ على حكمها.
أما الزاوية الأخرى، فهي تتعلق بضمور القوة الأميركية وتمركزها في المنطقة، بعد فشل المشاريع الأميركية لبناء "شرق أوسط جديد" مرة تلو الأخرى. وللدقة، إنَّ المسألة لا تكمن في الفشل، بقدر كونها إفشالاً تمخضت عنه تضحيات عابرة للمدن والعواصم العربية إثر مأساة عربية كبيرة، سواء من الضحايا أو اللاجئين. هذه الزاوية دفعت الطبقات الحاكمة الخليجية إلى حالة من الجنون والهرولة المتسارعة إلى التطبيع، بشكل لم تنتظر فيه اكتمال نتائج وسائل تمرير التطبيع في العقل الجمعي للشّعب العربي.
خصوصية القدس هذا العام
بالرجوع إلى الدكتورة روزماري سعيد، فإنّها تقول معلّقة على محاولات الولايات المتحدة قطع الصلة بين فلسطين والشعوب الخليجية: "ستظل الولايات المتحدة، بإهمالها هذه الصلة وإنكارها أهميتها المحورية، تخرج من أزمة خطيرة وتغرق في أخرى".
بصفتنا عرباً، علينا فهم الهجمة الصهيونية في إطار استمرارية الهجمة الاستعمارية الغربية على أرضنا العربية منذ وصول البرتغاليين إلى الخليج خلال القرن السادس عشر، ووصول الإنجليز والفرنسيين والإيطاليين والأميركيين إلى باقي الأقطار. وعليه، تحوز جميع الكتل البشرية العربية حتى اليوم نصيباً من هذه الهجمة والمأساة، وإن تنوع هذا النصيب، فإذا كان نصيب الفلسطيني والسوري والعراقي التهجير، ونصيب المصري والمغاربي واليمني الفقر والظمأ والجوع، فإنَّ نصيب كتلتنا العربية في الخليج هو محاولة فصلها طبقياً، وجعلها تغترب عن ذاتها وعن أمتها وعروبتها وإنسانيتها.
في ظلّ هذه الصّورة، يبدو يوم القدس هذا العام مختلفاً. لننظر إلى واقع وطننا العربي من منظور "رجال ربطات العنق" في واشنطن وملحقاتهم في العالم العربي. جل المسألة والهدف الأساس هو الحفاظ على الركيزة الثانية، أي الكيان، وهو ما يقتضي القضاء على مشروع مقاومته. لقد مثّلت عشرية النار الأخيرة أكبر محاولات القضاء على مقاومتنا، كعرب وفلسطينيين، من الخليج إلى المحيط، وأكثرها شمولاً، فماذا يملكون في جعبتهم بعد كلّ هذه الحروب والاقتتال ومحاولة إلهائنا عن قضيّتنا الأساس؟ ها نحن سنبقى على ما جُبلنا عليه، جيلاً بعد جيل، محتفلين بيوم القدس.