"إسرائيل" وحزب الله.. من يتخطى "الحدود"؟
هناك بونٌ شاسع بين ما تقوله "إسرائيل" وما تعلم أنه لن يتحقق؛ فالعناوين الفضفاضة يمكن أن تستثمر أي حدث وتجعل منه "نصراً"، وهذا ما تبحث عنه "إسرائيل"، ولكن هل تشير المعطيات آنفة الذكر إلى رؤية "إسرائيل" الحقيقية؟
صباح الثامن من أكتوبر 2023، صدر البيان الأول لحزب الله عند الساعة الثامنة و18 دقيقة، أي بعد ساعات قليلة من بدء عملية طوفان الأقصى. بدأ البيان بإخبار الجميع، من باب تأكيد المؤكد، أن ثمة أراضي لبنانية محتلة أخذ الحزب على عاتقه مهمة تحريرها "على طريق تحرير ما تبقى من أرضنا اللبنانية المحتلة..."، ثم جاء الإعلان عن البدء بالمهمة المستجدة: "... وتضامناً مع المقاومة الفلسطينية المظفرة والشعب الفلسطيني المجاهد والصابر..."، وبدأت القصة.
فعّل الحزب مذاك جبهة إسناد قوية ووفية وقفت إلى جانب القطاع المظلوم في وجه "إسرائيل"، والولايات المتحدة كذلك، لتثبيت معادلة الإسناد، وللتأكيد أن حرب الإبادة لن تمر من دون تسجيل مواقف تبدأ وتنتهي بالدم. وبهذا الإعلان، ألغى حزب الله الهدوء الذي تحقق على الحدود اللبنانية الفلسطينية لما يقارب 17 عاماً.
حزب الله و"تخطي الحدود"
لسنا الآن بصدد تعداد إنجازات المقاومة منذ اتخاذها قرار الإسناد الأول، فهي كثيرة، وتحتاج إلى مجلدات لتوثيقها، ثم تبيان أثرها، لكن على سبيل الإشارة، قامت المقاومة حتى اليوم الـ150 من الحرب بـ1194 عملية، وأوقعت خسائر كبيرة في العتاد والآليات والمواقع، وتراوحت الخسائر البشرية بين 2000 قتيل وجريح على الحدود الشمالية مع لبنان، وبلغ عدد المستوطنين النازحين 230.000 مستوطن.
230 ألف مستوطن ملأت تصريحاتهم الصحف العالمية. آلاف الاحتجاجات. امتعاض مستمر، ومطالبات للحكومة بحلول فورية، بالتوازي مع تعالي أصوات رافضة للعودة إلى المستوطنات: "نحن على قيد الحياة لأن حزب الله لم يقرر مهاجمتنا بعد".
فكرة النزوح الإسرائيلي التي لم يختبرها الكيان منذ قيامه إلا مرة واحدة قبل "طوفان الأقصى"، وتمت على يد حزب الله أيضاً في حرب تموز عام 2006، تكثفت منذ السابع أكتوبر، إلى أن أصبحت كابوساً لمستوطني الشمال ولحكومة لم تكن تلحظ أين يتم استنزافها.
صراخ المستوطنين يؤدي بالضرورة إلى انفكاكهم عن حكومتهم، فانتماء المستوطن يعود إلى المصالح، لا إلى الأرض، ولا سيّما أن الأرض ليست أرضه. وبمجرد أن تهتز مصالحه يعلو صوته ويبدأ بالتذمر والرفض، ويفكر في العودة إلى الأرض التي أتى منها، لأن المصالح المتبادلة بينه وبين من استقدمه إلى هذه الأرض باتت غير آمنة.
كل ذلك ما زال يحدث بالتوازي مع تبدد ما يسمى "معجزة" الاقتصاد الإسرائيلي الذي قيل للمستوطنين إنه لا يهتز، ورفد نتنياهو ذلك باستراتيجية للتطبيع المتتالي مع دول "الاعتدال" العربي، كما يسميهم، ليتيح له ذلك أن يحول "إسرائيل" إلى "مملكة صلبة"، قبل الطوفان طبعاً، إلى أن تجاوزت الخسائر الاقتصادية المعلن عنها حتى اليوم 51 مليار دولار، والحرب مستمرة، يرافقها شعور المستوطنين بأن معركة 7 أكتوبر هزّت ثقتهم بأنفسهم وبحكومتهم وجيشهم الذي رأوه "لا يقهر".
هذه المؤشرات وغيرها استدعت أن تفكّر "إسرائيل" بمحاولة فعل شيء إزاء حزب الله الذي يستنزفها في الشمال، ويهز صورة جيشها على الحدود، فتعالت الأصوات الإسرائيلية والأميركية لتختزل جميعها في مطلب واحد: أبعدوا حزب الله.
حاجة "إسرائيل" إلى فعل شيء، أيّاً كان، تجاه الحزب الذي "يمعن في تخطّي الحدود"، ظهرت جلية في تصريحات المستوطنين الإسرائيليين ورؤساء السلطات المحلية في المناطق القريبة من لبنان، الذين شددوا على أن عودة المستوطنين إلى المناطق الحدودة مرتبطة بدفع حزب الله بعيداً عن الحدود.
لكن لواشنطن وجهة نظر أخرى ربما لا تتطابق أو لا تتماشى مع "المصالح" الإسرائيلية في التعامل مع الحزب، فالتصريحات الأميركية سارعت إلى التأكيد "أن من الخطأ شن عملية عسكرية إسرائيلية كبيرة ضد حزب الله حالياً".
بطبيعة الحال، لن تحث واشنطن الحزب على عدم استهداف "إسرائيل" إلا من باب التهديد أو التحذير، وليس من باب "الحث"، لأنها لا ترى في استهداف "إسرائيل" لقطاع غزة خطأً فادحاً، فأقصى ما قاله الرئيس الأميركي جو بايدن بعد أكثر من 125 يوماً من الحرب وأكثر من 27 ألف شهيد: "إن سلوك الرد الإسرائيلي في قطاع غزة تجاوز الحد". الحد نفسه الذي ارتأى بايدن انتقاده بعد كل هذه الفترة، رأى الحزب ضرورة السعي لوضع حد له منذ اليوم الثاني للحرب.
تحاول "إسرائيل" أن تجد حلاً إجرائياً منذ الثامن من أكتوبر في مواجهة الحزب الذي يضرب "بخاصرتها الشمالية"، فأعادت إحياء الحديث عن القرار 1701؛ القرار الذي تبناه مجلس الأمن الدولي في 11 آب/أغسطس 2006، والذي يدعو لإيجاد منطقة بين الخط الأزرق (الفاصل بين لبنان وفلسطين) ونهر الليطاني تكون خالية من أي مسلحين ومعدات حربية وأسلحة، ما عدا التابعة للجيش اللبناني وقوة الأمم المتحدة المؤقتة "اليونفيل".
حتى اليوم الـ155 من الحرب، وجبهة لبنان الوفية ما تزال تعمل. لمست "إسرائيل" أنها لم تستطع وقف عمليات حزب الله في الجنوب اللبناني، لا بالتهديد ولا باتباع سياسة الاغتيالات، فعادت إلى الحديث عن القرارات الدولية والقوانين، وهي التي تمعن في اختراق كل معيار قانوني خُطّ منذ البشرية حتى اليوم.
تصريحات إسرائيلية عديدة دعت مجلس الأمن وواشنطن إلى إلزام حزب الله بهذا القرار. وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، قال إن "تنفيذ القرار الدولي 1701 بإبعاد مقاتلي حزب الله إلى شمال نهر الليطاني هو السبيل الوحيد لمنع نشوب حرب مع لبنان".
ليس رقماً ونقطة
هناك بونٌ شاسع بين ما تقوله "إسرائيل" وما تعلم أنه لن يتحقق؛ فالعناوين الفضفاضة يمكن أن تستثمر أي حدث وتجعل منه "نصراً"، وهذا ما تبحث عنه "إسرائيل"، ولكن هل تشير المعطيات آنفة الذكر إلى رؤية "إسرائيل" الحقيقية؟ هل تؤمن "إسرائيل" أن فكرتها هذه قابلة للتحقق؟
"الدولة" التي وجدت متلازِمةً مع عقدة الخوف تكذب في كل شيء، ابتداءً بشمّاعة "الدفاع" التي علّقت عليها كل جرائمها، وليس انتهاءً بقتل الأطفال التي تخترع كل يوم كذبة جديدة لتبرر قتلهم، ولتخفي عن العالم شهيتها في الإجرام.
يعلم حزب الله ذلك جيداً، وكذا حركات المقاومة كلها. وتعلم "إسرائيل" في المقابل أنها لا تستطيع أن تبعد حزب الله عن الحدود، فالحزب ليس مؤسسة تضم عدداً من الأشخاص تنتهي خدمتهم بمجرد حلّ المؤسسة. الحزب فكرة، والمقاومة فكرة، هل رأيت فكرة تجتث وتختفي، وخصوصاً إن كانت قائمة على مبدأ الحق والحرية؟
وإذا سلّمنا جدلاً - والتسليم هنا من أجل تقريب الفكرة ليس إلا - أن "إسرائيل" ستبعد حزب الله عن الحدود، إلى أين يذهب مقاتلوه الجنوبيون؟ هل يذهب المقاتل إلى مكان عمله الذي يقع ما بعد الليطاني صباحاً، ثم يعود إلى منزله الذي قد لا يبعد عن الحدود 5 كيلومترات مساءً؟
هذا تحديداً ما تطرقت إليه "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية مؤخراً بقولها: "عند الحديث عن إزالة حزب الله من حدود إسرائيل، من الضروري تحديد بالضبط ما الذي ستتم إزالته، وكيف يمكن التحقق من أن هذه الإزالة تمت بالفعل. ليس واضحاً ما إذا كان هذا يعني إزالة أسلحة التنظيم الثقيلة والاستراتيجية من المناطق القريبة من إسرائيل أو إذا كان الأمر يتعلق بتفكيك مواقع حزب الله القريبة من الحدود أو إذا كان الأمر يتعلق بإبعاد عناصر التنظيم الذين يعيشون مع عائلاتهم في المنطقة الحدودية"، وأضافت أن "عناصر حزب الله يمتلكون الأراضي في جنوب لبنان، وبالتالي لا يمكن تهجيرهم من منازلهم وأراضيهم".
لا تملك "إسرائيل" خطة واضحة حتى الآن تشرح فيها كيف يمكن إبعاد حزب الله عن الحدود بالمعنى الإجرائي، وهي لن تملك خطة تكون قريبة نسبية من التحقق، لأن حزب الله، والجنوب كله، وطبيعة الانتماء، أعقد من أن يفهمها كيان لا يملك أرضاً ليمتلك بعدها تصوراً يشرح كيف تقاتل الأرض مع أبنائها، وكيف يجعل ارتكاب فعل الاحتلال والإبادة. أهل الأرض يتشبثون بها أكثر، لأن الألم يحفّز شعورهم بضرورة الانتقام والتحرر والثأر.
استطاع حزب الله بعد 7 أكتوبر أن يقلّص الكيان المصطنع ديموغرافياً، فصغرت المساحة التي يحتلها أو يفرض عليها سيطرته، فيما عملياته تكبر وتشتد. في المقابل، لم تسطيع "إسرائيل" إبعاد الحزب عن الحدود، ولن تستطع، كما لم تقدر، أن "تقضي على حماس" في غزة، مع أنها استشرست في محاولة قتل كل شيء حي هناك.
لم تستطع "إسرائيل" أن تهجّر أهل قطاع غزة حتى بعدما قتلت عائلات ومحت بلدات وحارات بأكملها، فيما استطاع حزب الله أن يهجّر المستوطنين بصفارات الإنذار قبل أن تصل صواريخه حتى، فكيف تحلم "إسرائيل" بإبعاده عن حدوده؟