"جيش" الاحتلال والموت على حافة المعركة انتحاراً
تتجاهل المؤسسات في الكيان الإسرائيلي، جملة من الحقائق في تغاضيها عن اتساع نطاق الانتحار في "الجيش"، على نحو يشبه مواصلة السير على حافة الهاوية. ومردّ ذلك الانعكاسات الخطيرة للاعتراف الرسمي بهذه الظاهرة.
تصاعدت عمليات الانتحار في صفوف ضباط جيش الاحتلال الإسرائيلي وجنوده، وهم على رأس عملهم في القوات النظامية، كما الاحتياط، بالإضافة إلى ما بعد انتهاء الخدمة، على خلفية السابع من أكتوبر، بحيث انتحر 17 ضابطاً وجندياً، بالإضافة إلى 50 مستوطناً من مستوطنات غلاف غزة، وبعضهم خدم في الجيش فترة من الزمن.
يأتي هذا التصاعد بموازاة تكتم وسرية فرضهما الجيش، خشية على مشاعر الجمهور، بحسب متحدث باسم الجيش، أو بسبب طلب عوائل المنتحرين، أو لكبح جماح الجو النفسي الحاضن للانتحار. وتبيّن أن نشر معطيات الانتحار سابقاً زاد في الإقدام على الانتحار. لماذا، وكيف يحدث ذلك؟
يقول مصدر عسكري في "جيش" الاحتلال: "اعتقدنا أن إعلان ذلك من شأنه المس بمعنويات الجمهور". فنشر أسماء الجنود القتلى "يسبب ألماً كبيراً لدى الجمهور، واعتقدنا أن لا حاجة إلى إثارة أمر كهذا بسبب حالات لم يمت فيها جنود في معركة، أو بسبب حادثة عملياتية".
يُستدلّ من شعبة القوى البشرية ووحدة الصحة النفسية في الجيش أن تنامي الاضطرابات النفسية في صفوف الجنود هو السبب الرئيس في الإقدام على الانتحار، ويعود ذلك إلى ضغوط نفسية واجتماعية وأمنية، والأهم انعكاسات آثار الحرب منذ السابع من أكتوبر، وخصوصاً في ظل تفاقم الشعور بعدم الانتماء إلى الإطار العسكري.
تعتيم "جيش" الاحتلال لم يفلح أمام البحث الاستقصائي الذي أجرته صحيفة "هآرتس"، وإن لم ينفعها طلبٌ تقدمت به للحصول على قوائم رسمية، بموجب قانون حرية المعلومات، وهذه المرة ليس بسبب مقص الرقيب العسكري في ظرف الحرب، ولا بسبب حظر النشر القضائي، لكنها سياسة صارمة يتبعها الجيش منذ تأسيسه. وكل ما يرشح عن عمليات انتحار في صفوفه لا يتم إعلانها رسميا، لكنها تتفلت تحت ضغط الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي.
كانت المرة الأولى التي يتم فيها نكء هذا الجرح رسمياً قبل عامين، حينما تطرق رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، هرتسي هاليفي، إلى ما سماه "ضحايا الانتحار"، في مناسبة إحياء قتلى جيش الاحتلال السنوية. وأصدر تعليمات تفيد باستثمار مزيد من الموارد وإعداد الخطط للحد من حوادث الانتحار في صفوف الجيش.
وسبق أن أقدم 14 جندياً إسرائيلياً على الانتحار خلال عام 2022، خلال تأدية الخدمة العسكرية، في حصيلة هي الأعلى منذ 5 أعوام، بحسب ما أفادت به صحيفة "يديعوت أحرونوت". وخلال عام 2021، أقدم 11 جندياً إسرائيلياً على الانتحار، بينما سجلت النسبة الأعلى في حالات الانتحار في صفوف الجيش الإسرائيلي عام 2011، والذي انتحر خلاله 21 جندياً.
وتبين أنه، منذ عام 1973، انتحر ما لا يقل عن 1227 جندياً، ويدّعي الجيش أنه لا توجد في حوزته معلومات عن أعوام سابقة، إلا أن "هآرتس" نقلت، عن مصادر متعددة، قولها إن عدد الجنود الذين انتحروا أعلى من ذلك كثيراً، لأنه "طوال أعوام، تمت المحافظة على سرية حالات موت كثيرين، ووصفها بأنها حوادث أسلحة"، بحسب موقع "عرب 48"، المختص بالشأن الإسرائيلي.
وذكرت إحصاءات رسمية لمركز الأبحاث في الكنيست تسجيل 500 حالة انتحار سنوياً في مجمل الدولة، منها 100 حالة تسجّل في صفوف جيل الشباب من 15 إلى 24 عاماً. ويُعَدّ الانتحار سبب الوفاة الثاني لدى الفئة العمرية حتى منتصف العشرينات، والتي تنخرط في جيش الاحتلال، سواء من فترة التأهيل في التعليم الثانوي للتجنيد، أو خلال الخدمة العسكرية الإلزامية، وحتى في خدمة الاحتياط.
وتشير الإحصاءات إلى أن الانتحار ما زال هو السبب المركزي للوفاة في صفوف جنود الجيش، على رغم تراجعها في عام 2020 خلال جائحة كورونا، بتسجيل 9 حالات انتحار فقط من أصل 28 حالة وفاة سُجِّلت في صفوف الجنود، لكن يبدو أن عدد حالات الانتحار في صفوف الجيش الإسرائيلي أعلى من ذلك، لأنه في بعض الحالات يتم توثيق الانتحار على أنه حادث تدريب أو حادث طرق، وما شابههما، الأمر الذي يعني تعمّد التكتم على الأعداد الحقيقية للجنود المنتحرين.
يُستدل من المعطيات أن الأغلبية العظمى من حالات الانتحار تعود إلى الجنود الذكور، بحيث لا يتركون خلفهم أي خطابات أو رسائل تشرح أسباب إقدامهم على الانتحار. ولم يتوصل الجيش الإسرائيلي إلى نتيجة واضحة تفسر ذلك، وصدرت تعليمات للضباط في "الجيش"، تفيد بالحرص على "زيادة اليقظة والاهتمام اللازم" لمنع زيادة حالات الانتحار في صفوف الجنود. وأصدر رئيس شعبة القوى البشرية في الجيش الإسرائيلي، خلال العام الماضي، تعليمات بشأن فتح خط ساخن للجنود الذين يعانون مشاكل نفسية.
فشلت كل محاولات ضبط تصاعد حالات الانتحار، وذهبت كل الموازنات والخطط أدراج الرياح، ولم يفلح الضباط في ثني جنودهم عن الانتحار، بل تسللت حالات الانتحار إلى كبار الضباط أنفسهم، عندما أقدم ضابط في الخدمة الدائمة على الانتحار، بحيث عُثر عليه في سيارته بعد أن أطلق النار على نفسه، بعد أسبوعين من طوفان الأقصى، بالإضافة إلى ضابط آخر يعمل طبيباً في الاحتياط، أقدم على الانتحار، نتيجة المشاركة في الحرب، وما يتمخض عنها في تكوينه النفسي من اضطرابات عميقة.
رئيس مركز أبحاث الانتحار والألم النفسي في المركز الأكاديمي، "روبين"، البروفيسور يوسي تيفي، قال إن "هذا الأمر كان مفاجئاً جداً، فنحن لسنا معتادين على حالات انتحارات خلال القتال. وحالات كهذه كانت تحدث في الغالب في نهاية المعارك، وبين أشخاص يعانون حالة ما بعد الصدمة في الأساس، ويستمرون في الاستيقاظ كل صباح على مشاهد ونغمات وشعور بالذنب.
وهذه الحالات النادرة من شأنها أن تدل على شدة الفظائع التي حدثت في غلاف غزة في تلك الساعات، وعلى تأثيرها في الوضع النفسي لأولئك الذين اطلعوا عليها".
تتجاهل المؤسسات السياسية والعسكرية والأمنية، في الكيان الإسرائيلي، جملة من الحقائق في تناولها أو تغاضيها عن اتساع نطاق الانتحار في "الجيش"، على نحو يشبه مواصلة السير على حافة الهاوية، أو وضع الرؤوس في الرمال. ومردّ ذلك الانعكاسات الخطيرة للاعتراف الرسمي بهذه الظاهرة. وأبرز هذه الانعكاسات المترتبة، كما الحقائق المسببة:
أولاً: فقدان الشرعية، وهو الداء العضال الذي يعانيه كيان الاحتلال، وينعكس على مجمل الحياة في كيان هش يتضخم عسكرياً، وهو ما يفسر أولوية التطبيع حتى مع أنظمة مهترئة فاقدة لشرعية شعوبها.
ثانياً: ازدواجية الجنسية، فالإسرائيلي أميركي أو فرنسي أو بريطاني، وهو مهشّم وطنياً، فلا يروي ظمأه النفسي كل السمن والعسل في "تل أبيب"، وهو ما يفسر وجود أكثر من مليون إسرائيلي خارج البلاد منذ طوفان الأقصى.
ثالثاً: القلق العميق منذ السابع من أكتوبر، سواء لعدم القدرة على تحمل التعايش مع الحرب، أو للعجز أمام خيالات تكرار الواقعة نتيجة انعدام الثقة بكل مؤسسات "الدولة"، وخصوصاً أن المتسببين بالواقعة ما زالوا على رأس عملهم في إدارة أفظع حرب عرفتها المنطقة والعالم.
رابعاً: التناقض الحاد في التركيبة النفسية للإسرائيلي، بين تبعات الهزيمة في الـ7 من أكتوبر، وبين وحشية الإبادة الجماعية في غزة، فالجندي يتمزق نفسياً، كما الضابط، ويحاول عبر التوحش طمس تأثيرات الهزيمة من دون طائل.
خامساً: الأزمة الاقتصادية، وخصوصاً في وسط قوات الاحتياط، والراتب لا يتجاوز (240$) بقيمة شرائية محدودة نظراً إلى غلاء المعيشة المتفاقم منذ الحرب، مع فقدان كثيرين منهم عملهم الأصلي قبل الاستدعاء، نظراً إلى انهيارات واسعة في قطاعات الزراعة والبناء والتكنولوجيا والسياحة.
سادساً: شعور كثيرين من جنود المراقبة بأنهم يتحملون مسؤولية الفشل في الـ7 من أكتوبر، نظراً إلى انشغالهم بالحفلات الصاخبة ليلة عيد الغفران حدّ السكر والغرق في نوم طويل.
سابعاً: مواصلة النزف العسكري، فالخسائر البشرية بين الضباط والجنود لا تتوقف، والإصابات تملأ غرف الإنعاش في المستشفيات المحاذية للجبهات، ومستشفيات الوسط، على نحو يُفقد الجندي الطموح والثقة بالنجاة وهو يتخبط وسط رمال متحركة.
هذه العوامل وغيرها تؤرق قيادة الاحتلال، وتجعله بين خيارات أحلاها مرّ، فيختار سياسة الهروب من مواجهة تبعاتها. وما يفاقم الأزمة الإصرار على مواصلة الحرب في عدة جبهات، ثم التوحش الميداني في إدارة هذه الحرب، وهي توصيفة خصبة لتعزيز الرغبة في الانتحار لمن يعجز عن التماسك أمام أدنى اختبار اجتماعي أو اقتصادي.
ولعل الرقم 49، الذي تكشّف عبر فلتات المتحدث باسم "جيش" الاحتلال، لجنود وضباط قتلوا في حوادث عملياتية في ميدان غزة، مثل حوادث سير بين دبابات وآليات عسكرية، يعبّر في الحقيقة عن حالات انتحار يتم طمس معالمها، حتى لا يتسبب خروجها إلى الضوء بتحطيم معنويات الجيش و"المجتمع"، في ظل إصرار المستوى السياسي على معاندة العالم، في مواصلة حرب لا تحقق شيئاً من أهدافها المعلنة.