"الماكرونية" في ضوء اختبار غزة: ملامح التخبّط وأمارات الانكفاء
لا يوعَز نكوص الدبلوماسية الفرنسية إلى هذا التمادي في التبعية للهيمنة الأميركية فحسب، بل فيما يحمله بين طياته أيضاً من تعارض مع مصالح فرنسا العليا وتهديد لأمنها القومي.
انتكاسة تلو أخرى، يستفحل انكفاء الدبلوماسية الفرنسية تحت قيادة إيمانويل ماكرون الذي يمعن بخياراته الخارجية في تضييع البوصلة الاستراتيجية لفرنسا "الديغولية" التي طالما ثابرت كي تبقي على البعض من سراب استقلالية قرارها الخارجي أمام السيل الجارف للهيمنة الأميركية. أما اليوم، فإنّ المتابع لمواقف الحكومات الأوروبية سيجد أنّ مواقف إسبانيا وبلجيكا والنرويج من العدوان الصهيوني على غزة سيكتشف بأنها تتجاوز المواقف الفرنسية بأشواط في استقلاليتها.
ولا يوعَز نكوص الدبلوماسية الفرنسية إلى هذا التمادي في التبعية للهيمنة الأميركية فحسب، بل فيما يحمله بين طياته أيضاً من تعارض مع مصالح فرنسا العليا وتهديد لأمنها القومي.
هذه هي العناوين التي أومأ إليها الدبلوماسيون الفرنسيون العاملون في الشرق الأوسط والمغرب العربي في مذكّرتهم إلى الكيدورسيه. وبقدر ما عدّت مذكّرتهم سابقة في تاريخ الجهاز الدبلوماسي الفرنسي بقدر ما عبّرت عن تمادٍ في حالة انحراف الماكرونية عن الخطوط الكبرى للسياسة الخارجية الفرنسية في موقفها من العدوان الصهيوني على غزة، الذي وصل حدّ استدعاء أطروحة التحشّد العسكري الغربي لدحر حماس كما سبق أن فُعِل مع "داعش".
مذكرة غير مسبوقة
في 14 تشرين الثاني/نوفمبر، نشر الصحافي الفرنسي جورج مالبرونو مقالاً في صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية جاء فيه توقيع 15 دبلوماسياً فرنسياً ينتمون إلى "مديرية شمال أفريقيا والشرق الأوسط" على مذكّرة داخلية أرسلت إلى "وزارة أوروبا والشؤون الخارجية" تضمّنت نقداً لموقف الرئيس الفرنسي المؤيّد بلا شرط أو قيد للعدوان الذي يشنّه "جيش" الاحتلال على غزّة، والمتنكّر كليّاً لحقوق فلسطين والفلسطينيين.
وأعادت الصحيفة الفرنسية ذائعة الصيت "لوكانار أونشيني" نشر ما نقله مالبرونو عن مصادره، وهو ما حذت حذوه صحف كبيرة عبر العالم. ولم ينفِ مسؤولو الكيدورسيه ولا الإيليزيه وفقاً لصحيفة "بوليتيكو" ما نشرته لوفيغارو حين سُئلوا عن صحته، فيما يعدّ مؤشّراً على صدقه وحقيقته.
في فكرتها العامة، اشتملت مذكرة الدبلوماسيين الفرنسيين تحذيراً من أنّ هذه المواقف التي يجري بناؤها من طرف ماكرون على نحو يجعلها مطابقة للمواقف الأميركية، ومتماهية مع سردية الصهيونية العالمية، تنأى عن التوازن الذي حاولت فرنسا الالتزام به في ملف الصراع الفلسطيني-الصهيوني، وتنبئ بضرر فادح بمصالح فرنسا وصورتها لدى الشعوب العربية والمسلمة، والتي لم تفتأ تتراجع في عهد الرئيس الفرنسي الحالي الذي كثيراً ما اتخذ مواقف مستفزة ضدّ الإسلام والمسلمين.
في الماضي، لم يسبق أن حصل حدث مشابه في تاريخ الدولة الفرنسية ووزارة خارجيتها. وبالرغم من أن كاتب المقال ذكر عن مصدره أن نية الدبلوماسيين محرّري المذكّرة هي النقد بغية الاستدراك على وجه الاستعجال، إلا أنّ الحدث في حدّ ذاته، من الناحية الشكلية على الأقل، يشي بحجم الشرخ الحاصل بين مؤسسة الرئاسة ووزارة الخارجية الفرنسيتين الذي بلغ مستويات غير مسبوقة في عهدتي ماكرون بفعل قراراته الارتجالية وغير المحسوبة، القائمة على النهج أحادي الجانب واستبعاد مؤسّسات الدبلوماسية الفرنسية في عملية صناعة القرار الخارجي.
حتى قبل هذه الحادثة، كان استئثار وانفراد ماكرون بالقرار الخارجي الفرنسي بعيداً عن الدائرة المؤسساتية لصناعته واتخاذه محلّ انتقاد شديد من الجمعية الوطنية الفرنسية ونوابها، ولا سيما اليساريون واليمينيون المتطرفون منهم، الذين يتفقون في إيعاز الانكفاء والتخبّط اللذين تشهدهما السياسة الخارجية الفرنسية إلى "الماكرونية" وانحرافاتها عن الديغولية.
الماكرونية نقيض للديغولية؟
لم يحدث أن بلغت الدبلوماسية الفرنسية هذا المبلغ من التبعية للمواقف والسياسات الأميركية والصهيونية في تاريخها حتى في عهدة الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، الذي يحصل الاتفاق على أنه أسّس لبداية القطيعة مع النزعة الديغولية في الدبلوماسية الفرنسية منذ أعلن عن عودة فرنسا إلى القيادة المندمجة لحلف شمال الأطلسي أمام الكونغرس الأميركي في واشنطن في 7 تشرين الثاني/نوفمبر 2007.
ولقد أحدث قرار ساركوزي وقتها شرخاً كبيراً بين الحكومة والجمعية الوطنية الفرنسية، قدّمت الأخيرة في إثره اقتراحاً للتصويت لحجب الثقة في 8 أبريل/نيسان 2008 كاد أن يسقط الحكومة الفرنسية وقتها. بيد أن تداعيات سياسة ماكرون على مؤسسات الدولة تبدو أخطر: فإن كان قرار ساركوزي قد أحدث انقساماً بين السلطتين التشريعية والتنفيذية للدولة، فإن قرارات ماكرون تنذر بانشطار داخل السلطة التنفيذية الفرنسية في حد ذاتها.
من المفيد أن نذكر في هذا الصدد أنه منذ قرّر الجنرال ديغول الانسحاب من القيادة العسكرية للناتو، وطلب من كلّ قوّات الحلف غير الفرنسية مغادرة فرنسا عام 1966 احتجاجاً على الدور المهيمن للولايات المتحدة الأميركية على قرارات المنظّمة وعلاقتها الخاصة ببريطانيا، صارت النزعة الديغولية في مضامينها المتصلة بالسياسة الخارجية مرادفة للسعي إلى الإبقاء على استقلالية هوية فرنسا الاستراتيجية (والأوروبية أيضاً) وحماية قرارها الخارجي من التبعية لحسابات الهيمنة الأميركية.
على أنه إلى غاية فترة حكم جاك شيراك، حدث تشبّث فرنسي نسبي بهذه الفلسفة في العلاقة مع واشنطن. ولا يزال العالم يتذكّر الموقف الفرنسي الرافض للعدوان الأميركي على العراق الذي عبّر عنه وزير الخارجي الفرنسي زمن حكم شيراك، دويمنيك دوفيلبان، في خطابه الشهير أمام أعضاء مجلس الأمن في 14 شباط/فبراير 2003. لم يكتفِ دوفيلبان يومها بالتعبير عن رفض بلاده قرار الحرب، بل أضاف إليه تشكيكاً في الرواية الأميركية التي زعمت امتلاك العراق أسلحة دمار شامل ووجود علاقة بين صدام حسين وتنظيم القاعدة الإرهابي.
من الواضح إذاً أنه بدل العودة إلى نهج شيراك ودوفيلبان اختار ماكرون اقتفاء آثار "الساركوزية" بل والتمادي فيها، ولقد أتت عملية طوفان الأقصى لتثبت ذلك. فمنذ الأيام الأولى لملحمة الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر، تبنّى ماكرون موقفاً أهوجَ زاخراً بالتهجّم على المقاومة الفلسطينية وملصقاً تهمة الإرهاب بها، في تكرار سمج للسردية الصهيونية غاب عنها أدنى تمحيص أو مساءلة لها في ضوء المواقف الفرنسية الرسمية من القضية الفلسطينية.
وفيما بدا وكأنه مزايدة لا داعي لها عدا التملّق للكيان وحكومته لم يسبقه إليه أحد، اقترح إيمانويل ماكرون إحياء التحالف الدولي الذي أنشئ لمحاربة تنظيم "داعش" من أجل القضاء على حركة المقاومة الإسلامية (حماس) خلال زيارته الأخيرة إلى فلسطين المحتلة.
ويبدو أن ذلك الاقتراح، ومن فرط سفاهته، لم يؤخذ على محمل الجدّ حتى من أشد وزراء حكومة نتنياهو تطرّفاً. ولأنّ التعبير عنه تمّ بلا استشارة، فقد أثار حفيظة عدد كبير من الدبلوماسيين والمسؤولين الفرنسيين الذين اعتبروه خطأ فادحاً لا يتنافى مع تقاليد الدبلوماسية الفرنسية في هذا الملف فحسب، بل فيه استعداء شبه علني للغالبية القصوى من الشعوب العربية والمسلمة، وكثير من الدول المعروف عنها دعمها المبدئي لحماس وكل حركات المقاومة.
استدراك على المستدرك
لقد عبّر البيان التوضيحي الصادر عن الرئاسة الفرنسية عقب اقتراح ماكرون عن حجم الورطة التي وجدت فرنسا نفسها فيها بسبب نزق ماكرون، إذ حاول الإيليزيه من خلاله تحوير كلام الرئيس معتبراً مقترحه مجرّد استلهام فقط من فكرة التحالف ضدّ "داعش".
من الناحية الشكلية، يعكس اللجوء إلى بيان توضيحي بغية الاستدراك الوعيَ بفداحة السقطة، وهو نفسه ما تعكسه مبادرات ماكرون التي أعقبت إصدار البيان. فقد أعلن الرئيس الفرنسي بأن فرنسا سترسل سفينة مستشفى إلى سواحل غزة لإسعاف ضحايا القصف، إعلان واكبته تصريحات أخرى له أدان فيها على استحياء قصف المدنيين. لاحقاً، احتضنت باريس "مؤتمراً إنسانياً حول غزة" في الـ 9 من تشرين الثاني/أكتوبر 2023 تبعته دعوة من ماكرون في مقابلة له مع شبكة BBC "لوقف القصف ضدّ حماس لأنه يقتل النساء والأطفال".
والواقع أن ماكرون بسلوكياته هذه أمعن في الإساءة إلى صورة فرنسا الديغولية من حيث أراد أن يستدرك غلطته. ناهيك بأن بعض وعوده لم تنفّذ، وهو ما ينطبق على وعد المستشفى السفينة، وبعضها الآخر لا يزال حبراً على ورق، كما هو حال وعود مؤتمر باريس الإنساني، فإنه سرعان ما اضطرّ إلى التواصل مع نتنياهو لتدارك التوتر الذي أحدثته دعوته لوقف قصف النساء والأطفال مع حكومة الكيان، فكان سلوكه هذا بمثابة استدراك على المستدرك وإيغال في تقزيم صورة بلده، الذي بدا وكأنه ملحقة بلا سيادة لدى حكومة نتنياهو، لا يحقّ لها اتخاذ أيّ موقف قبل استشارته.
إنّ هذا التخبّط الذي يميّز سلوكيات ماكرون وبقدر ما يسيء لصورة الدولة الفرنسية ويكرّس انكفاءها ونأيها عن تقاليد الديغولية، بقدر ما يؤكد تلك القراءات التي تُظهر أن الرئاسة الفرنسية صارت تصنع سياستها الخارجية وفقاً لإملاءات "المجلس التمثيلي ليهود فرنسا" (CRIF) الذي بات يشكّل لوبياً مستحكماً داخل دواليب الدولة الفرنسية يتدخّل حتى في اختيار رؤسائها.
انبعاث الهواجس الأمنية الفرنسية
في اعتقادنا، شكّل اقتراح إيمانويل ماكرون القطرة التي أفاضت الكأس، والغلطة التي استدعت دقّ ناقوس الخطر بالنسبة للدبلوماسيين الفرنسيين.
ومع ذلك، لا ينبغي فهم تلك المذكّرة على أنها حرص من الأخيرين على حقوق الفلسطينيين أو اعتراف منهم بحقّ المقاومة أو دفع منهم لإدانة جرائم الكيان. إنّ نقدهم في الحقيقة يوعز إلى خوفهم على مصلحة بلادهم وأمنها خاصة بعد أن رأوا، ورأت حكومات الدول الغربية كلها، كيف تفاعلت شعوبه مع رسالة بن لادن التي أعادت الغارديان نشرها.
إن الهاجس بالنسبة لهؤلاء الدبلوماسيين، مثلهم مثل كثير من صنّاع القرار في الغرب، والذي شكّل دافعاً لهم لإرسال مذكّرتهم هو أن تحفّز سلوكيات دولهم الداعمة والمتواطئة مع ما يحصل من إجرام وإبادة في غزة موجات من ردّ الفعل ضدّ بلدانهم مستقبلاً، قد تكون المقاطعة هي أبسط أشكالها.