"إسرائيل" وحصاد الهزيمة المطلقة في غزة

دخلت غزة مع دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ مرحلة جديدة عنوانها طوفان الأحرار لتحرير الأسرى والوفاء بالوعد، رسمت فيها لوحتها الخاصة، علّمتنا أن لا مكان للقهر أو الذلّ أو الاستسلام.

0:00
  • طوفان الأقصى ما هي إلا جولة من جولات مشروع التحرير.
    طوفان الأقصى ما هي إلا جولة من جولات مشروع التحرير.

قبل 470 يوماً، كتبت أوّل مقال بعد عملية طوفان الأقصى التي نفّذتها كتائب القسام في السابع من أكتوبر، قلت فيه إنّ "إسرائيل" على موعد مع هزيمة أخلاقيّة وعسكرية في قطاع غزة ولن تحقّق أياً من أهدافها المعلنة في الحرب، لم أكن أعلم بالغيب فهذا ليس من صفات البشر بل كان نتيجة فهم دقيق وقراءة عميقة لبيئة وبنية وتركيبة وعقلية واستراتيجية المقاومة في قطاع غزة، وبعد 470 يوماً مرّت فيها الأيام والليالي والأحداث كانت الكلمة العليا فيها للمقاومة أولاً وأخيراً، أبدعت فيها بعمليات عسكرية بطولية ومعها جبهات الإسناد في لبنان واليمن والعراق، أثخنت في "جيش" الاحتلال الإسرائيلي بشكل لم يمرّ في تاريخ "إسرائيل" وهشّمت كلّ معادلات الردع الإسرائيلي في استهداف غير مسبوق لمواقع حسّاسة في العمق الإسرائيلي من دون أيّ خطوط حمر.

شكّلت معركة طوفان الأقصى مرحلة مهمة من مراحل الصراع الممتد مع "إسرائيل" وقوى المقاومة في المنطقة، وذهبت فيه "إسرائيل" مجبرة إلى وقف إطلاق النار في اتفاق مؤلم مع حماس، بكى مسؤولوها أثناء المصادقة عليه لصعوبة ثمنه بعد أن وصلوا إلى قناعة أنّ هزيمة حماس في قطاع غزة لم تعد ممكنة وأنّ شعار النصر المطلق الذي أطلقه بنيامين نتنياهو أصبح هزيمة مطلقة لها، وأنّ أهداف الحرب يصعب تحقيقها في بيئة معقّدة من الميدان باعتراف رأس الهرم في مؤسسة "جيش" الاحتلال الإسرائيلي هرتسي هاليفي، وإقرار وزير الخارجية الإسرائيلي في تصريح رسمي له بعد توقيع صفقة تبادل الأسرى للقناة الـ 12 الإسرائيلية أنّ "إسرائيل" لم تتمكّن طوال شهور الحرب من إعادة أسير إسرائيلي واحد حيّاً، ما جعله يقرّ بأنّ المسؤولية ستكون على حكومة نتنياهو ثقيلة خلال المرحلة المقبلة.

إشارات واضحة بالهزيمة المطلقة يعترف بها على الملأ، منظر خطة الجنرالات وصاحب استراتيجية الحصار والتجويع الذي أقرّ أيضاً بالهزيمة بعد توقيع صفقة وقف إطلاق النار، كما هو حال رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق اللواء احتياط غيورا آيلاند الذي اعترف على الملأ أنّ الحرب في غزة انتهت بفشل مدوٍ لـ "إسرائيل" وبنصر واضح وصريح لحماس، فيما خلصت دراسة حديثة نشرها معهد دراسات الأمن القومي في "إسرائيل" والتي جزمت أنه تمّ استنزاف "جيش" الاحتلال الإسرائيلي في مهامّ لم يكن لها تأثير على شروط إنهاء الحرب والذي أشار إلى أنّ وقف إطلاق النار بهذه الطريقة يعني أنّ "إسرائيل" لم تدمّر حماس ولم تكن قادرة على ذلك.

الاعترافات الصريحة بالفشل والهزيمة تعطي مؤشراً واضحاً على عمق الهزيمة المطلقة التي منيت بها "إسرائيل" والتي اعترفت بها صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" بشكل لافت للمرّة الأولى، وقالت فيها  إن "إسرائيل" خسرت الحرب على غزة، وكلّ ما سبق له دلالات مهمة على صعيد فشل "إسرائيل" المتكرّر في كلّ جولة مواجهة عسكرية بفرض استراتيجية ردع ناجحة تجاه قطاع غزة:

الدلالة الأولى/ القاعدة العسكرية تقول إن الحروب تقاس بالنتائج، وموافقة "إسرائيل" على وقف إطلاق النار في غزة جاء تحت ضغط ضربات المقاومة في الميدان وتحديداً في شمال غزة أثناء الأسابيع الأخيرة التي زامنت جولة المفاوضات وهذا يعدّ انتصاراً للمقاومة الفلسطينية.

الدلالة الثانية/ اتفاق وقف إطلاق النار جاء في سياق آخر ونتيجة ضغوط دولية أميركية من إدارة ترامب المنتخبة، وفي ظلّ ظروف وأزمات إسرائيلية داخلية عميقة وشديدة شملت احتجاجات شعبية وانقسامات سياسية وخسائر اقتصادية طائلة.

الدلالة الثالثة/ فشل نتنياهو  وشركاؤه في الصهيونية الدينية في تحقيق أهدافه واستغلال التصعيد لتوسيع الاستيطان وإعادته في قطاع غزة، وفشل الرهان على استمرار الحرب، إذ راهن نتنياهو على قدوم ترامب بأنه سيكون الخيار الأفضل لاستمرار حربه على غزة، فإذا بترامب يمارس ضغوطاً لوقف الحرب، وهو ما شكّل صدمة لكلّ الأوساط في "إسرائيل".

الدلالة الرابعة/ إثبات "إسرائيل" قدرتها على التدمير بأبشع صوره كان واضحاً في كلّ مناطق قطاع غزة وهذا يعكس عقلية إجرامية انتقامية، لكنها سجّلت فشلاً ذريعاً وعجزاً عن القتال وتحقيق أهدافها، ما كشف وهم قدرتها على هزيمة حماس والقضاء عليها.

الدلالة الخامسة/ أثبتت المقاومة الفلسطينية أنها عصيّة على الكسر أو الاستئصال وأنها نجحت في تحقيق وعودها لشعبها بإنجاز صفقة تبادل للأسرى مشرّفة وقد بدأت فعليّاً في مرحلتها الأولى، بينما فشلت "إسرائيل" ورضخت لمطالب حماس وهذا استسلام واضح وهزيمة مدوّية لها. 

الدلالة السادسة/ الصمود الأسطوري الذي سجّله الفلسطينيون وفصائل المقاومة تحت الحصار يعكس قوة الإيمان والثبات رغم هول الدمار والدعم الدولي العسكري لـ "إسرائيل" .

الدلالة السابعة/ انتصار المقاومة في غزة بدأ يحدث تصدّعاً وانشقاقات داخل حكومة نتنياهو باستقالة حزب بن غفير رسمياً من الحكومة، وهذه الانشقاقات لن تتوقّف عند هذا الحدّ بل ستؤدّي قريباً إلى سقوط كامل لحكومة نتنياهو.

ثمّة نتيجة واضحة في تقييم نتائج الحرب على غزة بعد أن وضعت أوزارها، فقد أعادت معركة طوفان الأقصى القضية الفلسطينية إلى الواجهة كقضية سياسية وأثبتت الصمود الاستثنائي الأسطوري لأهل غزة و انتصارها الحقيقي رغم الجوع والخوف، وانتصرت غزة وهزمت عدوها الإسرائيلي وكلّ من خذلها، وأوفت بوعدها المطلق بإبرام صفقة تبادل تحرّر فيها الأسرى أصحاب المؤبدات والمحكوميّات العالية، فيما تعيش "إسرائيل" عزلة دولية وأصبح قادتها ملاحقين قضائياً.

لتكتمل الصورة على الجانب الآخر، صورة النصر الذي تحقّق معمّداً بدماء الشهداء والقادة على طريق القدس، فقد انتصرت إرادة الصمود والتحدّي الفلسطينية على جبروت "إسرائيل" وبطشها، إذ ستقدّم صفقة تبادل الأسرى جملة من المكاسب للفلسطينيين في قطاع غزة، جاءت نتيجة إبداع في الميدان وصمود في المواجهة.

راهن نتنياهو على تهجير الفلسطينيين إلى سيناء وها هو يضطرّ مرغماً لإعادة أكثر من مليون فلسطيني نازح إلى غزة وشمالها، وهذا يكون إعلاناً صريحاً بفشل مخطّط التهجير، كما احتلّ محور نتساريم في محاولة لإعادة الاستيطان وها هو يضطرّ للانسحاب منه فتتبخّر كلّ أحلام عودة الاستيطان في غزة، وكما فشلت سياسة الحصار والتجويع التي راهن عليها على مدار خمسة عشر شهراً يرغم الآن بالموافقة على إدخال أكثر من 600 شاحنة إغاثية لقطاع غزة وهذا يمثّل فشلاً ذريعاً لخطة الجنرالات، حيث سيدخل أكثر من 60 ألف مسكن لمدن هدمت بيوتها لتنتصر إرادة الصمود على آلة الحرب الإسرائيلية، كما راهن على البقاء في محور فيلادلفيا حتى بات عبئاً استراتيجياً عليه يتلقّى الضربات من المقاومة ليرغم على الانسحاب منه رغماً عن أنفه.

طوفان الأقصى ما هي إلا جولة من جولات مشروع التحرير، كانت معركة بين شعب مصمّم على تحرير أرضه، وبين قوّة احتلال مدعومة من الغرب كلّه، لم تكن حرباً بين دولتين أو جيشين، أما المعركة الحقيقية فستبدأ تداعياتها داخل "إسرائيل" قريباً وستكون بداية لتفكّك أعمق في المجتمع الإسرائيلي من الداخل. 

دخلت غزة مع دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ مرحلة جديدة عنوانها طوفان الأحرار لتحرير الأسرى والوفاء بالوعد، رسمت فيها لوحتها الخاصة، علّمتنا أن لا مكان للقهر أو الذلّ أو الاستسلام، وأنّ النصر المطلق الذي سعى إليه نتنياهو تحطّم على صخرة صمود أسطوري سطّره الشعب الفلسطيني. 

كلمة حقّ وموقف للتاريخ أسجّلها بعد انتصار المقاومة في غزة، أقول، سلام على حزب الله، المقاومة الإسلامية في لبنان، أعزّ وأشرف الناس الذي شكّل أهمّ جبهة في جبهات الإسناد وقدّم أغلى ما يملك أمينه العام فداءً لفلسطين وغزة شهيداً على طريق القدس، سلام ليمن العروبة الظهر الذي لا ينكسر والذي ساند غزة ولم تخفه كلّ التهديدات وضرب عاصمة المحتلّ بصواريخه وطائراته وشلّ حركة التجارة العالمية نصرة لفلسطين، سلام على الملايين الذين احتشدوا نصرة لغزة في ساحاته، لن نوفيكم حقّكم أيها الأوفياء.. سلام على كلّ من ساند وعبّد بدمه طريق النصر المبين.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.