"إسرائيل" الهجرة والكيان.. وأسئلة الطوفان
لا شك في أن "طوفان الأقصى" وما بعده سيرفعان مؤشرات الهجرة المعاكسة، وقد يرفعان أيضاً من وتيرة استقدام اليهود تحت ضغط المخاوف الوجودية.
قضية الهجرة من "إسرائيل" وإليها لا تشبه مثيلاتها في أي مجتمع آخر؛ فمن البديهي القول إن هذا الكيان قام على الهجرة في معاني وجوده وأساس تكوينه، وهذا ما يفسر لماذا تبدو "إسرائيل" مسكونة بالهواجس بالهجرة منها وإليها بعد 75 عاماً على احتلالها فلسطين!
وفيما يأخذ العدوان على غزة المدى الأوسع من الاهتمام الرسمي والشعبي في الكيان، يغرد وزير الهجرة والاندماج أوفير سوفير عبر منصة "إكس" قائلاً إن "إسرائيل تستعد لزيادة كبيرة في الهجرة اليهودية إليها في العام المقبل، لا سيما من الولايات المتحدة وفرنسا"، بسبب ما وصفه بتصاعد حوادث معاداة السامية.
تغريدة وزير الهجرة أتت بعد أيام قليلة من طلب الحكومة الإسرائيلية من المستوطنين إعادة النظر في السفر إلى الخارج وتجنب إبراز الرموز اليهودية أثناء سفرهم واتخاذ احتياطات متزايدة عند السفر، في ضوء ما وصف بالعدد المتزايد لمظاهر معادة السامية.
يمكن القول إنَّ للرسائل الإسرائيلية حول الهجرة في هذه المرحلة مستويات متعددة من الدعاية موجهة إلى الداخل والخارج، فباتجاه الداخل ثمة رسالة تحمل ما هو أبعد من التحذيرات العادية للمستوطنين في أوضاع مماثلة، وخصوصاً أنَّ عدد من غادروا "إسرائيل" في الشهر الأول من حرب غزة وصل إلى أكثر من 230 ألف يهودي.
في مضمون هذه الرسالة، دعوة مضمرة للتمسك بـ"الملاذ الأخير لليهود في العالم وتحذيرهم من خطر يهددهم خارج هذه الأرض"، وطمأنة بأن اليهود سيواصلون الهجرة إلى إسرائيل" بالرغم من كل الظروف، ولا سيما من الوجهتين الأميركية والأوروبية (الفرنسية)، ربما لما تخسره "إسرائيل" من جراء هجرة من يعرفون بـ"الأدمغة"، إذ تشير دراسة لمعهد (شوريش) الإسرائيلي للدراسات الاقتصادية والاجتماعية إلى ظاهرة هجرة أصحاب الشهادات العليا، وهم عملياً "الكفالة لاستمرار إسرائيل كدولة متقدمة"، بحسب نص الدراسة.
وكانت بيانات وزارة الهجرة قد بينت في وقت سابق تراجعاً غير مسبوق في النصف الأول من العام 2023 في نسبة استقدام اليهود من أميركا وأوروبا بنحو 20%، وفقاً للمعطيات الرسمية الصادرة عن الوكالة اليهودية، إذ وصل في النصف الأول من العام الحالي إلى 29 ألفاً و293 مهاجراً إلى "إسرائيل"، بانخفاض قدره 20% مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي.
أما الرسائل إلى الخارج، فهي محاولة لإعادة استمالة الرأي العام، الغربي منه على وجه الخصوص، من خلال التأكيد على أحد عناوين "المظلومية" التاريخية: معاداة السامية، لاستثارة عقدة الذنب الأوروبية التاريخية تجاه اليهود، بعدما أفضى العدوان الإسرائيلي الوحشي على غزة وأهلها إلى تعاطف شعبي عالمي واسع مع الفلسطينيين.
تتحين "تل أبيب" كل فرصة لاستقدام اليهود إليها، فتستعين بالاضطرابات الأمنية لحض اليهود على الهجرة إلى ما يعتبرونها "أرض الميعاد". خلال العام 2022، استقدمت 37364 من روسيا و14680 من أوكرانيا من أصل 70 ألف يهودي مهاجر من 95 دولة مختلفة، وهو ما اعتبر النسبة الأعلى في أعداد القادمين منذ الانتفاضة الثانية عام 2000، وكان 27% منهم من الشباب، بحسب محطة "نيوز 24" الإسرائيلية، التي ذكرت أن الوكالة اليهودية عملت على إنقاذ يهود أوكرانيا من هول الحرب.
على سبيل المثال لا الحصر، نستذكر صورة نتنياهو الكاريكاتورية في مطلع العام 2015 إبان مشاركته عنوة في تظاهرة باريسية تقدمها عدد كبير من قادة العالم. وقد وجه من فرنسا الدعوة نفسها لليهود للهجرة بسبب اضطرابات ناتجة مما وصفه بـ"الإرهاب الإسلامي" على خلفية كاريكاتور "شارلي إيبدو" المسيء.
وبالتزامن مع ذلك، وضعت وزارة الهجرة إعلاناً في موقعها الإلكتروني تغري فيه من يرغب من اليهود بـ9 آلاف دولار لكل زوجين يهاجران إليها، ومساعدة للعازبين بـ4 آلاف و750 دولاراً، فضلاً عن وعود بالسكن والعمل وفرص التعليم.
وكانت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية أشارت بالاعتماد على بيانات صدرت عن مركز الإحصاء الإسرائيلي إلى أن عدد اليهود الذين غادروا "إسرائيل" عام 2015 إثر الحرب على غزة بلغ 16 ألفاً و700 شخص، عاد منهم 8500 شخص، والأمثلة كثيرة.
لا شك في أن ما تعيشه "إسرائيل" اليوم من تهديد لم تعهده منذ عقود سوف يترك بصمته على الهروب والهجرة من "إسرائيل" وإليها، فما يجري في ساحة غزة، كما في العمق الإسرائيلي، ليس ظرفاً عابراً في تاريخ الكيان باعتراف القادة الصهاينة أنفسهم، ولا سيما أن هذه الحرب أتت في ظل توترات سياسية داخلية وصعود للنخب الدينية واليمنية دفعت بعض المسؤولين الإسرائيليين إلى استقراء بوادر حرب أهلية في الأفق. لعل هذا ما حدد خيارات الشباب بتفضيل الهجرة على البقاء.
وقد كان استطلاع للرأي أجرته الإذاعة الإسرائيلية الرسمية مطلع العام قد كشف أن أكثر من 25% من اليهود البالغين (أكثر من 18 سنة) يفكرون في الهجرة على نحو جدي، وأن 6% منهم باشروا بالفعل إجراءات عملية للهجرة، وذلك بسبب تغلغل نفوذ الأحزاب الحريدية واليمين الديني المتطرف في الحكم، فضلاً عن التعديلات القضائية التي اعتبرها من شملهم الاستطلاع "انقلاباً على الديمقراطية".
يمكن اختصار المتغيرات الأساسية المحددة للهجرة من وإلى "إسرائيل" بثلاثة: المتغير العقيدي الذي يجمع ما بين الديني والسياسي، والمتغير الأمني، والمتغير الاقتصادي الاجتماعي.
تستخدم "إسرائيل" بالضرورة المتغيرات الثلاثة للدعاية الخاصة بالهجرة، فإذا ما اختل أمن الخارج، تصبح "إسرائيل" ملجأ اليهود وملاذهم وأمانهم. أما إذا ما اختل أمن الداخل، فلا يبقى إلا البعد العقيدي لاستبقاء من يفكر في الهجرة، والسؤال المطروح اليوم: إلى أي مدى يمكن أن يؤدي هذا المتغير دوراً في هذه الجولة الاستثنائية من الحرب وما بعدها؟ وهل تستطيع "إسرائيل" المتضررة اقتصادياً أن تستعين بالمتغير الثالث المتمثل بالوعود المعيشية للإغراء بالبقاء؟
أسئلة تجعلنا نعتقد أن لغة الأرقام والمعدلات الحسابية على أهميتها لا تعين وحدها في فهم واقع الهجرة من الكيان وإليه. ويبقى التفسير الناتج منها قاصراً عن استخراج المعاني المعقدة لهذا الملف، سواء المجتمعية منها أو السياسية أو العقيدية.
عادةً ما تكون لغة الأرقام لغة احتراب في هذه الحيثية. لذا، يمكن القول إن استقراء ارتفاع وانخفاض معدلات الهجرة من وإلى "إسرائيل" لا يفضي منطقياً إلى الاستنتاج بالرغبة في القدوم إلى "إسرائيل" نفسها أو عدمها.
كما أن الهجرة منها قد تحكمها عوامل فردية أو مجتمعية اقتصادية بحتة لا علاقة لها بالرغبة في التخلي عن الكيان على غرار ما يحصل في أي دولة من دول العالم. وربما لو قارنا بين أرقام الهجرات من "إسرائيل" وأي بلاد أخرى في منطقتنا، لوجدنا أن أرقام "إسرائيل" قد لا تتفوق عددياً بالنسبة إلى مجموع السكان.
لكن في "إسرائيل"، وبخلاف غيرها من المجتمعات، تلتصق قضية الهجرة بوجودها وهي مطروحة باستمرار وفي الظروف شتى. إنها نشاط حكومي مستمر ودؤوب بمعاونة الوكالة اليهودية واللوبيات الصهونية في العالم لتعويض أي نقص ناتج من الهجرة المعاكسة ولحماية ديموغرافيا الكيان من "التهديد" الفلسطيني.
إنَّ هذا القلق الوجودي الدائم على دور الهجرة في استمرار بقاء الكيان يشير إلى أنَّ "إسرائيل" ما زالت في طور البناء كموطن لليهود، حتى ولو استقرأ البعض نهاية تاريخها، فمن يرأس حربة الهجوم الدامي على الفلسطينيين، أي رئيس الحكومة الحالية، أعلن عام 2017 أن العمل لضمان استمرارية "إسرائيل" لمدة 100 عام واجب، وأشار إلى أنه لم يحدث في التاريخ أن استمرت دولة يهودية أكثر من 80 عاماً.
ثمة حركة دائمة من الهجرات والهجرات المعاكسة لها دوماً محدداتها الدينية والسياسية والمجتمعية والفردية المتداخلة، لكن وإن كان مفهوماً أن تتواصل على الدوام حركة مؤسسية رسمية وغير رسمية لاستقدام اليهود بالنظر إلى طبيعة الكيان، فمن المثير للغرابة أن تتمأسس في المقابل حركة الهجرة المعاكسة التي غالباً ما يفترض أن تكون محكومة بمحددات فردية، فما معنى إنشاء مؤسسة تدعو إلى "مغادرة إسرائيل معاً"؟ وما معنى تأطير رغبة الأفراد في الهجرة لأسباب شتى؟ وعمَ يعبر!؟ إنه سلوك يبدو للوهلة الأولى متناقضاً مع معاني الانتماء وعمق الشحن العقيدي الذي دفع بهذا الكيان إلى حيز الوجود! فهل هو كذلك بالفعل؟
مجموعة "فلنغادر إسرائيل معاً" التي كانت قد أعلنت أنها تضم علمانيين ومتدينين على حد سواء نشرت في أحد مواقع التواصل أسماء الدول التي من المقرر الهجرة إليها، موضحةً في الوقت عينه أنّ 10 آلاف إسرائيلي سيهاجرون في الخطوة الأولى.
أما الأسباب، فتعود إلى ما وصفته بتغير نظام الحكم في "إسرائيل" وطابع "الدولة" اليهودية. وهنا، تبدو محددات الهجرة المعاكسة من "إسرائيل" أكثر راديكالية من محددات البقاء فيها اليوم، وهي تعبر في هذا المستوى عن انتماء أعمق إلى الكيان ببعده العقيدي، وليس العكس.
وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى ملاحظة لافتة، أنه بالرغم من أن "إسرائيل" استطاعت على مدى عقود أن تبني "مؤسسات الدولة" بحداثة غربية في الظاهر، غير أن هذه الحداثة تقابلها تناقضات في لحمة الهوية الوطنية التي تجمع بين اليهودية والديمقراطية. ويقول صالح النعامي في كتابه "النخبة الإسرائيلية الجديدة - دراسة في صعود أثر التيار الديني": "كلما تعاظمت الهوية الدينية لدى اليهود، تعمق الشعور بالهوية الدينية على حساب الهوية الوطنية".
في الخلاصة، لا شك في أن "طوفان الأقصى" وما بعده سيرفعان مؤشرات الهجرة المعاكسة، وقد يرفعان أيضاً من وتيرة استقدام اليهود تحت ضغط المخاوف الوجودية. الأرقام هنا ليست في الدرجة الأولى من الأهمية، بل إن السؤال الأهم هو في فعل هوية المستقدمين الجدد وهوية المغادرين الجدد في الصورة السياسية لـ"إسرائيل" ما بعد الحرب، لا سيما مع صعود النخب الدينية الجديدة وعمق أثرها ودورها في "المجتمع" الإسرائيلي.
هل تعيد "إسرائيل" اجترار السياسات نفسها التي أوصلت إلى الموقعة الكبرى؟ وهل تكون مدفوعة لها بفعل عمق تأثير الأحزاب الدينية؟ كيف ستلملم "إسرائيل" شتاتها الداخلي؟ وهل تكون سائرة إلى محاولة إرساء لحمة مجتمعية – سياسية تشبه بدايات المشروع الصهيوني في فلسطين؟ وهل تكون قادرة على ذلك؟