هل من أبعاد سياسية لزيارة الرئيس الصيني إلى المنطقة؟
بكين تدرك أهمية التعاون مع دول الشرق الأوسط والفرص الاقتصادية والاستثمارية الموجودة فيها، لكنها تدرك في الوقت نفسه حجم المخاطر والتحديات الموجودة في تلك المنطقة.
شهدت الدبلوماسية الصينية نشاطاً ملحوظاً خلال الشهرين الماضيين، تمثل في مشاركة الرئيس الصيني شي جين بينغ في قمة دول العشرين التي عقدت في مدينة بالي الإندونيسية، وقمة دول منظمة شنغهاي التي عقدت في العاصمة الأوزبكية، سمرقند.
كذلك، تشهد بكين سعياً أوروبياً للتقارب معها، بدأه المستشار الألماني شولتس، ومن المتوقع أن يستمر بعد اللقاءات الناجحة للرئيس الصيني مع قادة الدول الأوروبية، وخصوصاً الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وبعد اللقاء الذي جمع الرئيسين الصيني والأميركي على هامش قمة دول العشرين، والذي ساهم في نزع فتيل التوتر والمواجهة بين البلدين على أقل تقدير.
كما تسعى بكين لتعزيز علاقاتها بالدول العربية، التي تشكل أهمية استراتيجية لها، فبكين أكبر شريك تجاري للدول العربية، كما تشكل هذه الدول مصدراً رئيساً للنفط الذي يعدّ عصب الحياة، والصين هي المستهلك الأكبر له في العالم، كونها المصنع للعالم كله.
ومن هنا، فإن الأنظار تتجه إلى الزيارة المرتقبة للرئيس الصيني شي جين بينغ إلى المنطقة العربية لعقد ثلاث قمم (قمة صينية-سعودية، قمة صينية-خليجية، قمة صينية-عربية)، ومن المتوقع أن تحقق هذه الزيارة تطوراً في العلاقات العربية-الصينية، ليس لجهة الأرقام التي تعكس الازدياد في حجم التبادل التجاري فقط، بل لجهة انخراط الصين في عدد من القضايا التي تمسّ أمن المنطقة، والتي يمكن لبكين لعب دور بارز فيها، خاصة وأنها الدولة الأكثر قبولاً ربما من قبل جميع الأطراف.
تأتي الزيارة في الوقت الذي تعيش منطقة الشرق الأوسط توتراً كبيراً نتيجة للأحداث التي تشهدها إيران، والمرجح تورط بعض الدول العربية والإقليمية فيها، أو تأييدها ولو إعلامياً على أقل تقدير، وهو ما يضر بمصالح جميع دول المنطقة. خاصة وأن طهران اليوم قوة إقليمية لا يمكن تجاهلها، أو تصور أي ترتيبات أمنية من دون إشراكها، إذ إن أمن منطقة الخليج العربي مرتبط بكل تأكيد بأمن إيران، وأي اضطرابات تشهدها طهران ستكون لها ارتدادات كبيرة على أمن جميع دول المنطقة.
كما تشير المعطيات إلى توقف المفاوضات بين إيران والغرب بشأن برنامجها النووي، خاصة بعد الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي، والتي حقق فيها الجمهوريون فوزاً في مجلس النواب، ما يعني الاستمرار في السياسة التي استخدمها الرئيس السابق ترامب، وعدم تحقيق أي نجاحات على هذا الصعيد. بالرغم من أن الولايات المتحدة والغرب ما زالوا يتحاشون التصريح علناً عن الفشل في المفاوضات أو نهايتها، لأن ذلك يعني أن إيران ستستمر في عمليات التخصيب، وأن عليهم منعها بالقوة عبر اللجوء إلى مجلس الأمن، لكن ذلك لن يكتب له النجاح في ظل الانقسام الذي يشهده المجلس. وبالتالي، سيكون من المستحيل الحصول على قرار منه يخوّل الدول الأعضاء التحرك واستخدام القوة ضد طهران.
وتأتي الزيارة في الوقت الذي تتجه فيه أنظار العالم كله إلى المنطقة، لما تمثله من أهمية استراتيجية آخذة في الازدياد، وخاصة بعد الحرب الأوكرانية وازدياد حاجة العالم إلى نفط المنطقة، والذي تنتج إيران كمية كبيرة منه.
كذلك، تأتي الزيارة والمنطقة تعيش حالة من عدم التوازن الأمني نتيجة لأسباب كثيرة أهمها الانسحاب الأميركي من العديد من المناطق، ونتيجة لفقدان بعض الدول قدرتها على إدراك الدور الذي يمكن أن تلعبه والمكانة التي تحتلها في المعادلة، فعاشت حالة من "تضخم الذات"، لدرجة أننا بدأنا نرى دولاً قزمة تطمح لأن يكون لها دور القيادة الإقليمية، فقط لأنها تمتلك المال، وتنفقه على تمويل الاضطرابات الداخلية في دول أخرى مستعينة بجماعات إرهابية مرتزقة، تجد فيها أداة لتنفيذ تلك السياسات.
إن العقدة الأهم التي يعيشها العديد من دول المنطقة، هي ما يمكن تسميته بـ "عقدة الصغير"، الذي يرى أنه مهما امتلك من مال أو قوة فإنه سيبقى صغيراً، وأن الطريق الوحيد أمامه ليكون مساوياً للآخرين هو العمل على جعلهم صغاراً مثله. من هنا، كان هدف تلك الدول الصغيرة وطموحها العمل على تقسيم الدول الكبيرة وتفتيتها إلى دويلات صغيرة يمكن التعامل معها والتفوق عليها.
هذه الدول، وبالرغم من امتلاكها للإمكانيات والثروات الكبيرة، تدرك تماماً أن هذا كله لا قيمة له ولا معنى إذا لم يكن هناك استقرار في المنطقة، وأن هذا الاستقرار لا يمكن أن يتحقق إلا بالحوار السعودي-الإيراني الذي يعدّ المفتاح لحل العديد من قضايا المنطقة وأخطرها. هذا التنافس فيما لو استمر، فقد يتحوّل إلى مواجهة، لن تكون دول المنطقة ولا العالم كله، قادرين على تحمل تبعاتها.
من هنا، فإن بكين وبالرغم من تركيزها على الجانبين الاقتصادي والتجاري، ومع عدم رغبتها في الخوض في الملفات الخلافية لدول المنطقة، لكنها باتت مضطرة إلى فعل ذلك حماية لمصالحها التجارية والاقتصادية، التي ستبقى مهددة إذا لم تكن هناك مظلة سياسية وأمنية وعسكرية تحميها.
ومن هنا، فقد تولدت قناعة ربما لدى بكين بضرورة التخلي عن عقلية التاجر الذي يبحث عن زبون فقط، لتنتقل علاقاتها بالعديد من الدول العربية إلى شراكات تشمل جميع المجالات السياحية والثقافية والعلمية والطبية والتكنولوجية، إضافة إلى التعاون التجاري والاقتصادي.
بكين تدرك أهمية التعاون مع دول المنطقة، والفرص الاقتصادية والاستثمارية الموجودة فيها، لكنها تدرك أيضاً حجم المخاطر والتحديات الموجودة في تلك المنطقة. وهي لن تتردد في لعب دور الوساطة وتقريب وجهات النظر بين أطراف النزاع في المنطقة إذا ما طلب منها ذلك، وطالما أن ذلك هو المعيار الوحيد الكفيل بخلق بيئة استثمارية آمنة. خاصة وأن رأس المال جبان، والاقتصاد الصيني ليس بأفضل حالاته، وبكين لا تحب المغامرة أو الاعتماد على الصدف، بل تسعى لوضع حسابات دقيقة لكل خطوة تفكر في القيام بها.
ولعلّ الملف الأهم والأخطر هو العلاقات الإيرانية-السعودية، وهو الملف الذي من الممكن أن تلعب فيه بكين دوراً كبيراً، فإيران شريك استراتيجي للصين، وهناك اتفاقية للتعاون الاستراتيجي بين البلدين لمدة خمسة وعشرين عاماً. وكذلك المملكة العربية السعودية التي باتت علاقاتها تتطور وبشكل متسارع مع بكين، وخصوصاً بعد الفتور ومن ثم التصعيد في العلاقات السعودية مع الولايات المتحدة الأميركية. لذا، فالمملكة باتت تبحث عن "شريك ممكن" ولا يوجد اليوم سوى الصين.
بكين تحرص على التأكيد دوماً أنها لا تسعى لأخذ مكان أحد، ولا تريد أخذ دور الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، ولديها حساسية كبيرة من موضوع التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهو ما لا تقبله بالنسبة إلى وضعها الداخلي، كما تركز عليه وتنتهجه في سياستها الخارجية. لذا، فإن هذا الأمر سيشكل عامل طمأنينة لدول المنطقة التي باتت تدرك المكانة المستقبلية للصين، وضرورة التعاون معها.
لذا، فمن غير المستبعد أن تكون إيران حاضرة في القمة الصينية-السعودية، أو القمة الصينية-الخليجية، وحتى في القمة الصينية-العربية. وإذا لم تكن حاضرة تمثيلاً فهي وبلا شك ستكون حاضرة في نقاشات الرئيس الصيني مع القادة الخليجيين، لأن كل ما سيتم التوصل إليه من اتفاقيات لا معنى له ولا قيمة فيما لو حدث شيء قد يهدد الأمن القومي لإيران.
تنتهج دول الخليج، وخاصة المملكة العربية السعودية اليوم نهج التنويع في التحالفات والصداقات، وعدم وضع البيض في سلة واحدة، وهو ما سيجعل من تقاربهم مع طهران عامل توازن لعلاقاتهم المتسارعة مع الكيان الصهيوني، والتي ليس لها مبررات منطقية حتى الآن، فما الفائدة من إقامة علاقات مع كيان لا يحترم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، تلك الحقوق التي تدعمها الشعوب العربية جميعها ولا تقبل المساس أو التفريط بها.
فالدول الخليجية تعيش اليوم طفرة اقتصادية كبيرة تريد استثمارها في التركيز على التنمية والرفاه، والصين هي الدولة الأقدر على تنفيذ تلك التوجهات. كما باتت تلك الدول تدرك أن كل هذا الرفاه سيكون لا قيمة له ولا معنى في حال حدوث أي مواجهة مع طهران.
من هنا، فكل الأسباب المنطقية متوافرة لعودة العلاقات السعودية-الإيرانية، والتي حققت قفزات سابقاً في ظل الوساطة العراقية بين البلدين. كما تعيش طهران أوضاعاً اقتصادية ليست جيدة، بسبب العقوبات الأميركية المفروضة عليها، وهي بأمسّ الحاجة إلى استثمار الطفرة الحالية في أسعار الطاقة، وهو ما سيحلّ العديد من مشكلاتها الاقتصادية الداخلية.
فهل ستنجح بكين في خلق الثقة بين البلدين، وهل سنرى الرئيس الإيراني في الرياض، وهذا إن حصل سيشكل بداية مرحلة جديدة للدبلوماسية الصينية ونهجها السلمي، وسعيها لتحقيق الأمن والسلام في العالم لتحقيق الفوز المشترك للجميع كما كانت تقول على الدوام.