هل حان الوقت حقّاً لعلاقات طبيعية بين سوريا وتركيا؟
هل وصلت تركيا إلى طريق مسدود بعد استنفاد سياستها في سوريا وأصبح مسلحو الشمال عبئاً عليها؟ أم أنّ إعادة العلاقات التركية العربية ساهمت في حثّ تركيا على عودة العلاقات مع سوريا بعد عودتها إلى الجامعة العربية؟
أثار تصريح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان زوبعة من الجدل حول استعداد تركيا تطبيع العلاقات مع سوريا ولقاء الرئيس السوري بشار الأسد، مشيراً إلى إيجابية تصريحات الرئيس الأسد، الذي أكد بدوره الانفتاح على المبادرات التي تحترم سيادة سوريا وتكافح الإرهاب، فما هي المتغيّرات التي أدّت إلى إعادة التقارب السوري التركي؟
هل وصلت تركيا إلى طريق مسدود بعد استنفاد سياستها في سوريا وأصبح مسلحو الشمال عبئاً عليها؟ أم أنّ إعادة العلاقات التركية العربية ساهمت في حثّ تركيا على عودة العلاقات مع سوريا بعد عودتها إلى الجامعة العربية؟ عوامل عديدة يمكن لحظها في مسار المصالحة المنشودة.
عود على بدء
ليست المرة الأولى التي تسعى فيها تركيا لإحياء هذا المسار المتعثّر، ففي أيلول/سبتمبر 2022 زار هاكان فيدان الذي كان مديراً للاستخبارات التركية دمشق من أجل البدء بمسار عسكري أمني بين تركيا ودمشق برعاية روسية، ضمّ وزراء دفاع روسيا وتركيا وسوريا، انضمّت إليه إيران عام 2023.
كانت أنقرة قد هدّدت في أيار/مايو 2022، بشنّ هجوم في شمال شرق سوريا، ضدّ وحدات الحماية الكردية عارضتها كلّ من روسيا وإيران آنذاك. وفي العام التالي استضافت موسكو وزراء الدفاع والخارجية التركي والسوري قبل الانتخابات الرئاسية التركية في أيار/مايو 2023 من أجل الحوار والاتفاق، وكان إردوغان قد راهن على هذا الاجتماع لتعزيز حظوظه في الانتخابات، بينما كان الرئيس الأسد يراهن على فوز المعارضة التركية ويرفض إعطاء إردوغان هذه الورقة التي عدّها انتخابية.
أغلق الرئيس السوري بشار الأسد الباب أمام لقاء محتمل مع نظيره التركي. فحاولت كلّ من إيران وروسيا إحياء المسار المتعثّر لكن من دون جدوى. لم يعد إردوغان يستعجل التطبيع بعد فوزه بالانتخابات وتراجع الضغوط الداخلية، وتراجعت أولوية القضية السورية لديه.
بعد حرب غزة، تم خلط الأوراق في المنطقة، حيث ركّزت الأطراف الإقليمية والدولية على الوضع في القطاع، وكادت القضية السورية تذهب طي النسيان مع استفحال الأزمة الاقتصادية في ظل العقوبات المفروضة عليها. تمّ التواصل التركي السوري في نهاية كانون الأول/ديسمبر 2023 عبر اجتماع أمني بين وفدين عسكريين سوريين وتركيين بالقرب من كسب في محافظة اللاذقية السورية للبحث في التعامل بشكل مباشر مع القضايا الأمنية والعسكرية.
وفي 11 حزيران/يونيو الماضي طرح وزير الخارجية التركي مع الرئيس الروسي في موسكو، موضوع الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا، وطرح موضوع إعادة البحث في العلاقة التركية السورية، ناقش الرئيس الأسد مع الممثل الخاص لروسيا في الشرق الأوسط ألكسندر لافرنتييف، في 26 حزيران/يونيو الماضي الموضوع ، أبدى خلالها الرئيس الأسد "انفتاحه على أي مبادرة تتعلق بالعلاقة السورية التركية، وشدّد على ضرورة أن تستند المفاوضات مع تركيا إلى مبادئ تضمن سيادة الدولة السورية على كامل أراضيها، مع التركيز على "مكافحة الإرهاب"، ومن الملاحظ أن الرئيس الأسد لم يضع شرط انسحاب الجنود الأتراك بل تركها للتفاهمات.
حرب غزة وما بعدها في سوريا
قدّمت حرب غزة فرصة لتنشيط المناقشات الثنائية، بعد فشل الرباعية في أستانة. فرض إعلان الإدارة الذاتية الكردية إجراء انتخابات جديدة على كل من دمشق وأنقرة تعزيز التعاون، وكان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان قد أكد في أوائل العام 2024 أولوية بلاده فيما يتعلّق بسوريا، وأعربت أنقرة عن قلقها إزاء استمرار حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في فرض أمر واقع، كما ركّزت أنقرة على أنها تعيد هيكلة الجيش الوطني في المناطق الخاضعة لسيطرتها لمواجهة توسّع هيئة تحرير الشام.
ترى دمشق بأن تركيا أضعفت قوات سوريا الديمقراطية بشكل كبير وأدّت دوراً في تقليص سيطرتها الإقليمية في شمال سوريا، وعلى الرغم من الدعم الأميركي المباشر لها، تسعى أنقرة إلى مسار ثنائي سوري تركي لتقويض سيطرة قوات سوريا الديمقراطية. الظروف المتغيّرة دفعت دمشق لاتخاذ موقف من تعزيز الإدارة الذاتية حكمها في شمال سوريا، من خلال إجراء انتخابات محلية وكتابة دستور جديد.
لذلك يرى الطرفان أنه من المناسب التركيز على التفاعلات الإقليمية، ومن بين هذه التفاعلات البارزة احتمالات الانسحاب الأميركي من سوريا والعراق والمنافسة على ملء الفراغ الناتج عن ذلك.
قد تكون مصالح تركيا الاقتصادية سبباً من أسباب دفع الوساطة العراقية إلى الأمام، فلتركيا مصالح في العراق بعد توقيع اتفاقات طريق التنمية مع ما يلزم للحفاظ على أمن الطريق وإيجاد حلول للحرب مع حزب العمال الكردستاني وقطع طرق تواصله مع الإدارة الذاتية الكردية في سوريا. إضافة الى ضرورة حلّ مشكلة الحدود السورية التركية أمنياً واقتصادياً، وترى تركيا أن الشراكة بين الطرفين تقودان إلى مصالح اقتصادية مشتركة.
إضافة إلى أهمية الاستثمارات العربية الإماراتية والقطرية في طريق التنمية والدور الذي يمكن أن يؤدّيه التقارب التركي العراقي السوري من فوائد اقتصادية، ولا سيما التمويل الدولي المطلوب لإعادة الإعمار في سوريا الذي ترغب فيه أنقرة بمنطق الربح للجانبين. فهل ستتغلّب على الحصار الذي تفرضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؟
قد يتطلّب التطبيع توافقاً ضمنياً من الولايات المتحدة على قيام الدول العربية بفتح صفحة جديدة مع دمشق، وقد يرغب الرئيس الأسد أيضاً في رؤية مدى الفارق الذي سيحدثه التطبيع. هل ستتمكّن تركيا من أخذ زمام المبادرة بشكل مستقل عن الولايات المتحدة؟ هل ستساعد في إعادة الإعمار؟
في الحقيقة، لم تعد السياسة التركية تجاه سوريا قابلة للاستمرار؛ فقد أظهرت كلّ الدلائل أن حادثة التحرّش في قيصري تحوّلت بسرعة إلى تظاهرات مناهضة للاجئين، قابلتها تظاهرات ضد تركيا من قبل الجماعات المسلحة التي تتلقّى الدعم السياسي والمالي والعسكري من تركيا لسنوات في المناطق السورية الخاضعة لسيطرتها، وليست المرة الأولى التي يتمرّد فيها المسلحون المدعومون من هيئة تحرير الشام التي تنسج علاقات مع الولايات المتحدة الأميركية وتحاول في الوقت عينه الإيحاء بضبط العناصر غير المنضبطة تجاه تركيا.
ما يسود في أوساط النخبة التركية هو ضرورة تغيير سياسة تركيا تجاه سوريا. وصلت سياسة التدخّل في الحرب الأهلية وسياسة اللاجئين إلى نقطة لا يمكن أن تتحمّلها المعارضة التي تتوسّع في تركيا. لكن يبدو أن أنقرة تفضّل قمع هذا التمرّد من خلال تجنّب ردّ الفعل العنيف لكي لا تنعكس على الداخل حيث ثلاثة ملايين لاجئ، وهي تحاول موازنة مصالحها وجسّ نبض الأميركي إبّان اجتماع حلف الناتو في واشنطن في 8 و9 تموز/يوليو.