هل تصمد واشنطن أمام التحديات المتزامنة الثلاثة؟
بعد الحرب الباردة، كانت قرارات الهجوم المتزامن على العراق وأفغانستان ممكنة في ظل حالة الانهيار العالمي المروّع. أما اليوم، فتبدو مهمة واشنطن في توليف الجبهات لمصلحتها أمراً غير ممكن.
لم تجد الولايات المتحدة نفسها في وحل من التحديات المتزامنة كما هي عليه اليوم، أقله منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي. في شباط/فبراير 2022، وعلى وقع مفاجأة العالم في التحرك الروسي لإعلان مواجهة الناتو في أوكرانيا، كانت الولايات المتحدة تعتقد أن من السهل تخصيص كل إمكانياتها لمصلحة دعم أوكرانيا إلى إشعار آخر؛ لا حاجة للتفكير في تايوان ولا الشرق الأوسط ولا أميركا اللاتينية ولا غيرها، وبالإمكان "تجميد التاريخ" إلى حين الخلاص من روسيا أو هزيمتها بحزم العقوبات الاقتصادية المغلظة والدفع بالعتاد العسكري الغربي إلى أيدي الأوكرانيين.
أربك طوفان الأقصى الأولويات الأميركية، وأجبرها على التحرك بالمنطق الذي لا تريده؛ الانتشار الواسع على رقعة الشطرنج باستخدام العدد نفسه من القِطع، لتجد نفسها تقع في فخ ما وصفه بول كينيدي "عبء التوسع"، ولتجد نفسها عاجزة عن دعم توسعها خارج الحدود اقتصادياً وعسكرياً.
وبحسب مركز العلاقات الدولية (CFR)، تصدّرت أوكرانيا قائمة الدول المستقبلة للمساعدات الأميركية، وهي المرة الأولى التي تتصدّر فيها دولة أوروبية اللائحة منذ عهد هاري ترومان وخطة مارشال إبان الحرب العالمية الثانية.
وبحسب معهد كيل للاقتصاد العالمي، فإن حجم الدعم الأميركي لأوكرانيا وصل إلى 77 مليار دولار حتى31 تشرين الأول/أكتوبر 2023. هذا الرقم يشمل فقط الدفعات التي تم تسليمها حكومياً من الولايات المتحدة وحدها. ويحظى الدعم العسكري بالحصة الأكبر فيها (61%).
مع تصاعد الأصوات داخل الولايات المتحدة لوقف النزيف المالي الأميركي واعتبار أوكرانيا عبئاً مالياً جديداً لا داعي له، سُمع صراخ مدلل آخر يأتي من الشرق أكثر، من "إسرائيل"، التي تحصل على مساعدة سنوية ثابتة من الولايات المتحدة بقيمة 3.8 مليار دولار حتى عام 2028.
ومع انطلاق طوفان الأقصى، وافقت إدارة بايدن على مساعدة تتجاوز قيمتها 14 مليار دولار في 20 تشرين الأول/أكتوبر الماضي. ويضاف إلى كلّ ذلك الجسر الجوي الذي يعمل على تعبئة مخازن السلاح الإسرائيلي، بعدما كان قد أفرغها خلال جولات المواجهة مع روسيا في أوكرانيا.
إضافةً إلى كل ذلك، تدخل "إسرائيل" لتنال حصة من حزمة الدعم الأميركي المقدرة بـ 105 مليار، والتي ستضم أيضاً أوكرانيا وتايوان. وقد شهدت الأخيرة مؤخراً انتخابات انتهت بفوز الحزب الديمقراطي التقدمي المتحمس لخطاب الانفصال عن الصين.
بذلك، تكون واشنطن في مواجهة 3 جبهات ساخنة؛ الأولى ضد روسيا في أوكرانيا، والثانية ضد مواجهة محور المقاومة في الشرق الأوسط (فلسطين واليمن والعراق ولبنان بعد انطلاق جبهات الإسناد)، والثالثة في تايوان في حال باشر الحزب الديمقراطي التقدمي في تايوان استفزاز الصين وطلب المساعدة الأميركية لذلك.
تتمحور أزمة واشنطن الجدية في تزامن التحديات في العناصر التالية:
1. فشل التسخين المتناوب للجبهات
ففي الوقت الذي سخنت جبهة الشرق الأوسط بعد طوفان الأقصى، راكمت خسائر على جبهة الحرب ضد روسيا في أوكرانيا.
يمكن تلمس ذلك من انحسار موجة الدعاية الإعلامية المضللة ضد روسيا وتراجعها. وأثناء هذه "الاستراحة الإعلامية" في جبهة أوكرانيا، تلاحقت تطورات الميدان إلى الحد الذي قال عنده الأمين العام لحلف الناتو ستولتينبرغ بداية كانون الأول/ديسمبر 2023: "انتظروا سماع الأخبار السيئة من كييف".
خلال الحرب الباردة، كانت سياسة واشنطن في تبريد جبهات وتسخين أخرى تعمل بفعالية أكبر، وليس أدلّ على ذلك نجاح تجربة احتواء "الشيوعية الآسيوية"، عندما قررت الولايات المتحدة التقارب مع الصين للتفرغ للاتحاد السوفياتي، ولكن اليوم من الواضح عجز الولايات المتحدة عن احتواء أي جبهة من التحديات الثلاثة؛ محور المقاومة والصين وروسيا. الجبهات الثلاث مستنفرة ومتلهفة للمواجهة.
2. متلازمة فيتنام
كانت حرب فيتنام أول حرب تخسرها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وكما يقول بول كينيدي في كتابه "صعود وسقوط القوى العظمى"، لقد قوّضت تلك الحرب أسماء جنرالات كبار، وتصدّع الإجماع في المجتمع الأميركي حول أهداف الأمة وأولوياتها، وساد التضخم، وعمّت التظاهرات الطلابية، ونشبت اضطرابات غير مسبوقة في المدن، واهتزت صورة الولايات المتحدة وفقدت شعبيتها في العالم.
حدث كل ذلك في عز تفوق الولايات المتحدة الأميركية عسكرياً وغزارة إنتاجها الاقتصادي، إذ كانت إنتاجية الولايات المتحدة تبلغ أكثر من 50 ضعف إنتاجية فيتنام. اليوم، يتكرر المشهد بصورة أقسى، فالمزايا الصناعية للولايات المتحدة تراجعت، بما في ذلك الصناعات العسكرية، بعدما رهنت اقتصادها لعقود لقطاعات التأمين والمشتقات المالية والعقارات.
في ظل هذا الاقتصاد المالي غير الإنتاجي، كان من الطبيعي أن لا تستطيع ردع اليمن في البحر الأحمر، ولا تستطيع حسم المعركة مع روسيا في أوكرانيا، ولا إجبار حزب الله على تجميد جبهة الإسناد لغزة عبر التهديد بحاملات الطائرات. متلازمة فيتنام التي تطارد واشنطن اليوم أكثر فعالية وأكثر خطراً عليها.
3. الانتقال السريع من كييف إلى غزة
أطلقت واشنطن كارتيلات الإعلام الضخمة لدعم خطة "التمويه القيمي" الأميركية، واعتمدت في حربها ضد روسيا، إلى جانب الدعم العسكري لأوكرانيا، على تصوير العملية العسكرية الخاصة باحتلال يستوجب استنفار المنظمات الحقوقية، وهي بذلك تشوه صورة روسيا من جهة، وتحاول تغييب الصورة التي اتسمت بها الولايات المتحدة في عهد إدارة ترامب من جهة أخرى.
كان الانتقال الأميركي سريعاً جداً من كييف إلى غزة، ومن لحظة الحديث عن اللاجئين الأوكران إلى تجاهل الإبادة الجماعية التي تحدث في غزة، وإعاقة القرارات التي تحاول وقف إطلاق النار في مجلس الأمن والهيئات الدولية. أزمة واشنطن المركبة تتفاقم في ميادين الدبلوماسية والمواجهات العسكرية. هذا الانتقال السريع لم يسبب أزمة في الصورة التي تريد واشنطن تصديرها عن الذات فحسب، إنما لحق بها أيضاً ما تريد تصديره للداخل الأميركي الذي كان قد بدأ يتململ من الدعم المالي لأوكرانيا، فإذا به يسمع أخبار الدعم المالي والميداني لـ"إسرائيل".
4. الانتشار الواسع بحاجة إلى الأحلاف العسكرية الصلبة
اتسمت الحرب الباردة بالأحلاف العسكرية المتماسكة شرقاً وغرباً. في ظل لزوجة التحالفات العسكرية في عالم اليوم، تجد الولايات المتحدة نفسها عاجزة عن تشكيل أحلاف عسكرية مماثلة، ومن ذلك امتناع السعودية ومصر عن المشاركة في تحالف "حارس الازدهار"، علاوة على امتناع عدد كبير من الدول الأوروبية، باستثناء الحليف الأنغلوساكسوني التاريخي والمتمثل في المملكة المتحدة.
خلال الحرب الباردة، نجحت واشنطن في تبريد جبهة لحساب تسخين أخرى، وأفسحت المجال لليابان المهزومة للتطور اقتصادياً لمواجهة صين ماو تسي تونغ، واحتوت الصين لاحقاً للتفرغ للاتحاد السوفياتي.
وبعد الحرب الباردة، كانت قرارات الهجوم المتزامن على العراق وأفغانستان ممكنة في ظل حالة الانهيار العالمي المروّع. أما اليوم، فتبدو مهمة واشنطن في توليف الجبهات لمصلحتها أمراً غير ممكن. يحدث ذلك في ظل تراجعها الاقتصادي والعسكري. إنه ببساطة مسار الانحدار المتسارع الذي لا يمكن إنكاره.