ملفّ التقارب التركي – السوريّ وتشعّباته: بين حقل السياسة وبيدر الميدان
ستكون الحاجة إلى دمشق قوية أكثر من السابق، وذلك في ملفات عديدة، على رأسها التفاوض مع طهران والحرب على اليمن.
مع تصاعد الحديث عن خطوات متسارعة على خط التقارب التركيّ السوريّ خلال الأسبوعين الأخيرين، وتحديداً بعد لقاء موسكو الثلاثيّ الذي جمع وزراء دفاع سوريا وتركيا وروسيا نهاية العام الفائت، برزت في الضفة التركية والإقليمية خصوصاً مواقف ومعطيات ومؤشّرات عديدة متعلّقة بهذا المسار.
بعض هذه المعطيات يتفق مع الشكل المعلن لهذا الملفّ ويوحي بوجود مساعٍ وجهود لدفعه نحو الأمام بالسرعة الممكنة، وبعضها يتناقض معه أو يترك إشارات تدلّ على أنّ هذا الطريق شائك جدّاً وفيه مطبّات عديدة كفيلة بتعطيل مساره، أو على الأقلّ تُعزّز الريبة والشكوك في نيات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أو في قدرته على الإيفاء بوعوده وتحقيق شروط نجاح هذا المسار برمّته.
وأظهر استطلاعٌ للرأي أجراه مركز "ميتروبول" للأبحاث يوم الاثنين الفائت عبر الهاتف في 28 مقاطعة تركيّة أنّ 59% من الشعب التركيّ يؤيدون فكرة عقد لقاء قمة بين الرئيسين السوري بشار الأسد والتركي رجب طيب إردوغان، في مقابل معارضة 29% وامتناع 12% عن إعطاء رأيهم في الموضوع.
هذا الأمر يدلّ على ضيق الشعب التركيّ بالضغوط الاقتصادية والسياسية والاجتماعية القاسية التي خلّفتها نتائج تورّط نظام الرئيس إردوغان في الحرب السوريّة، ورغبة الأتراك في المضيّ قدماً وسريعاً في أيّ جهود تحقّق الاستقرار والانفتاح على المحيط الإقليميّ في ظلّ الظروف الصعبة التي يعانيها الاقتصاد التركيّ، والتخلّص من عبء اللاجئين السوريين الذين باتوا يُشكّلون عامل ضغط اقتصاديّ واجتماعيّ هائل في البلاد.
وجاء تصريح ياسين أكطاي، مستشار الرئيس التركيّ، الذي أعلن فيه عبر قناة تلفزيونية تركية موالية لإردوغان وجوب وضع مدينة حلب السورية تحت الإدارة التركية "لمرحلة انتقالية"، و"إلى حين التوصل إلى حلّ سلميّ للأزمة السورية بمشاركة الشعب السوريّ"، وتحدث عن "منطقة آمنة" تستوعب اللاجئين الواجب إعادتهم سريعاً تحت حماية تركيّة، ليكشف القليل ممّا يختبئ تحت سطح التصريحات الإيجابية العامة والعائمة حول إمكانية الوصول إلى اتفاق وتطبيع قريب بين الجانبين، وقدرة أنقرة على تلبية الشروط السورية الواضحة في هذا الملفّ.
كذلك، جاء تصريح وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، بعد اللقاء الذي جمعه بممثّلي المعارضة السورية، ومنهم رئيس ما تسمّيه أنقرة "الحكومة المؤقّتة" عبد الرحمن مصطفى، ورئيس "الائتلاف السوري المعارض" سالم المسلط، ورئيس "هيئة التفاوض السورية" بدر جاموس، في السياق نفسه، إذ أعاد أوغلو تأكيد دعم بلاده للمعارضة السورية وفق القرار الأممي 2254، وعدم وجود نيّة تركية بالتخلّي عن تلك المعارضة.
ولكن الوزير التركي لم يوضح الطريقة التي ستوائم بها بلاده بين الانفتاح المنشود مع دمشق ودعم العديد من المجموعات والكيانات التي تعادي الدولة السورية، والتي ما زالت تعلن هذا العداء كل يوم.
وفي هذا السياق تحديداً، برزت مؤشرات عديدة تدلّ على مدى الانقسام والتخبّط في صفوف المعارضة السورية التي ترعاها وتمولها وتحتضنها أنقرة، والمجموعات المسلّحة العاملة تحت اللواء التركي في شمال سوريا.
وأعلن عبد الرحمن مصطفى، رئيس ما يُسمّى "الحكومة المؤقتة"، أنّ وزير الخارجية التركي أكّد استمرار دعم بلاده للمعارضة السورية في المناطق التي تسيطر عليها في الشمال السوريّ، وقال إنّ "تركيا تتصرّف بما يتماشى مع توقّعات المعارضة السورية".
ورأى مصطفى أنّ القضاء على "التنظيمات الكردية الانفصالية" هو الأولوية بالنسبة إلى الجميع، وأنّ "المعارضة السورية" تدعم جهود تركيا في "مكافحة الإرهاب"، وعبّر عن إيمان "الحكومة المؤقتة" بالحلّ السلمي.
وقال بدر جاموس، رئيس "هيئة التفاوض السورية المعارضة"، إنّ التقارب التركي السوري "يخدم مصلحة البلدين"، إذ تريد أنقرة القضاء على المجموعات الكردية المسلحة الموجودة في الشمال والشرق السوريين وإعادة اللاجئين إلى تلك المناطق، فيما تريد دمشق "إزاحة قوات "قسد" من المناطق الغنية بالنفط والثروات الإستراتيجية، وهو ما يمكن لأنقرة أن تساعد دمشق على تحقيقه"، بحسب قوله.
ورأى عبد الباسط سيدا، الرئيس السابق لما يُسمّى "المجلس الوطني السوري"، في مقال له نُشر في الآونة الأخيرة، أنّه ينبغي التركيز على السوريين المناهضين للسلطة في سوريا في الداخل وفي جميع المناطق السورية وتوحيدهم ودعمهم، لأنّ قوى المعارضة السورية والهيئات التابعة لها، مثل "الحكومة المؤقتة" والعديد من الفصائل المسلحة وجميع الهيئات والمنصات الأخرى، "باتت عمليّاً امتدادات لسياسات الدول التي توجد فيها، ولن تتمكّن من الاعتراض على السياسات التركيّة".
هذا الأمر يشير إلى انقسامات واضحة وكبيرة بين صفوف المعارضين السوريين، وسط اتّهامات متواصلة بالتبعيّة والعجز و"بيع القضية"، فقد تركت تصريحات عبد الرحمن مصطفى وبدر جاموس أصداء غاضبة جدّاً في ساحات التظاهر التي دعت إليها بعض الفصائل والمجموعات في الشمال السوريّ، إذ رُفعت شعارات تتّهمهم بالخيانة والتفريط، وبأنّهم يُقدّمون مصالح مشغّليهم التي تُحقّق لهم مصالحهم الشخصية على أيّ مصلحة أخرى لقوى المعارضة السورية.
من جهته، وبعدما أعلن أنّ خطوات التقارب التركي – السوريّ تُشكّل "انحرافاً خطراً عن أهداف الثورة"، ودعا جميع الفصائل المقاتلة إلى الانضواء تحت قيادته لمواصلة الحرب ضد الدولة السورية، حاول أبو محمد الجولاني، زعيم تنظيم "هيئة تحرير الشام" الإرهابيّ الذي تحتضنه وتدعمه تركيا منذ سنوات، أن يجد لنفسه مكاناً في "التسوية" المفترضة، وذلك خلال أكثر من لقاء جمعه بمسؤولين أمنيين أتراك قبل أيام قليلة.
وقد سمع الجولاني من رجال الاستخبارات التركية كلاماً واضحاً عن ضرورة الابتعاد عن طريق "إم 4" الدولي، وعدم شنّ هجمات على الطريق بمجرّد الإعلان عن فتحه قريباً، وهو طريق حيويّ بالنسبة إلى أنقرة ذاتها، إذ يجري الحديث عن أنّ إعادة فتح خط "الترانزيت" التجاري السوري بين تركيا ودول الخليج سيكون في طليعة القرارات التي سيجري اتّخاذها والعمل بها قريباً.
لكنّ الجولانيّ الذي أبدى استعداده للرضوخ للمطالب التركية الأخيرة، عاد إلى المناورة الميدانية فوراً لإثبات وجوده وأهميته في أيّ تسوية قادمة، إذ شنّت مجموعات تابعة لـ"هيئة تحرير الشام" هجمات على مواقع الجيش العربي السوري في ريفي حلب والرقة، وخصوصاً على محاور قرى معلّق وصيدا ومحيط بلدة عين عيسى، وعلى الطريق الدولي "إم 4" في ريف الرقة.
وقد تلتها هجمات واشتباكات عنيفة بين الجيش السوري ومجموعات الجولاني وفصائل مسلحة أخرى متحالفة معه، على رأسها جماعة "الفتح المبين" على جبهات ريف حلب الغربيّ، خصوصاً على محاور سرطون وكفر تعال وأورم الصغرى.
هذه الأحداث تدلّ على نيّة الجولاني نقل نشاطه الرئيسيّ إلى جبهات حلب والرقة وخطوط التماس مع الشرق السوريّ، وتدلّ أيضاً على مراوغة تركية في كبح جماح الرجل وجماعته الإرهابية أو عجز أنقرة عن ذلك بالفعل، وهو ما يشير إلى صعوبات ميدانية كبيرة ستواجه مسألة إنجاح المسار السلميّ الجاري بين البلدين، وعدم قدرة تركيا على تحقيق الشروط السورية على هذا الصعيد الأساسيّ بالنسبة إلى دمشق.
وفي مسارٍ مواز ومتعلق بهذا الملفّ، بلغ النشاط الأميركيّ الحثيث المتعلّق بإعاقة التقارب التركي – السوريّ حدّ السّعي إلى جمع أكبر عدد من المجموعات والمكونات السياسية الصغيرة المعارضة مع "قسد"، لتشكيل جبهة جديدة تحوي بعض التنوّع السياسيّ والقوميّ، وتنشيطها ميدانيّاً وسياسيّاً لضرب هذا التقارب وإفراغه من مضامينه على أرض الواقع.
بعد إعلان "الإدارة الذاتية" ترحيبها بكل المعارضين الرافضين للتقرب مع تركيا، ووجوب وحدة الصف ضد هذا المسار الذي يستهدفها بشكل أوّلي، في رأي قادتها، أقدمت واشنطن على استدعاء قيادة ما يُسمّى "التحالف السوري الوطني" الذي تدعمه الولايات المتحدة ويتّخذ من عاصمتها مقرّاً له إلى القامشلي للقاء القيادات السياسية الكردية، بهدف إقامة ائتلاف سياسيّ يجمعهما إلى جانب "من يحضر ومن يريد"، وسط دعوات إلى "التوحّد" بين قوى المعارضة السورية لمواجهة المشاريع التركية.
إنها خطوة أميركية واضحة لعرقلة التقارب السوري – التركي، تزامنت مع زيارات شخصيات سياسية وعسكرية أميركية إلى أنقرة خلال الأسبوعين الماضيين لبحث سبل التقارب التركي – الكرديّ وقطع الطريق على نجاحات سورية – روسية – إيرانية – تركية في الميدان السياسي والعسكري السوريّ، ستكون واشنطن أبرز الخاسرين فيها. وقد تزامنت أيضاً مع زيادة الدعم العسكري والمالي الأميركي للكرد وتعزيز الوجود العسكري الأميركيّ في الشرق السوريّ للهدف نفسه.
ومن المؤشّرات المهمة الأخرى في هذا الملفّ، مسارعة وزير الخارجية الإماراتي إلى زيارة دمشق بعد الإعلان عن اللقاء الثلاثي في موسكو، وهي زيارة تدلّ على تلقّف بعض الدول العربية للمستجدات الحاصلة في المنطقة، وخصوصاً المساعي الروسية والإيرانية على خطّ دمشق – أنقرة.
وتحرص الإمارات والسعودية ومصر خصوصاً على الدخول على الخط بالقوة، والمشاركة الفعلية في صنع التغييرات في المنطقة، لما تجد فيه تحقيقاً لمصالحها السياسية والاقتصادية أوّلاً، وذلك بعد ما أفرزه صمود سوريا وحلفائها بعد سنوات من الصراع المرير من عجز عن تحقيق الأهداف الأميركية والغربية والعربية التابعة، وبعد تسليم تركيا ذاتها بفشل كل مشاريعها في سوريا، والعودة إلى حديث التقارب مع دمشق، وما أفرزته الحرب في أوكرانيا من تغييرات وتداعيات سياسية واقتصادية خطرة في الساحة العالميّة.
لذلك، وبعد إفشال تلك الدول العربية ذاتها، بأمر من واشنطن، مسألة عودة دمشق إلى شغل مقعدها في الجامعة العربية في قمة الجزائر الأخيرة، ترى تلك العواصم العربية أنّ الانفتاح الاقتصادي والسياسي في المنطقة مصلحة للجميع، وأنّ سوريا ستعود إلى الواجهة بقوة في الفترة القادمة، من دون أن تبتعد عن حلفائها الأساسيين، وعلى رأسهم طهران.
لذا، ستكون الحاجة إلى دمشق قوية أكثر من السابق، وذلك في ملفات عديدة، على رأسها التفاوض مع طهران والحرب على اليمن.
وعلى الرغم من إيعاز واشنطن إلى حلفائها العرب في اليومين الأخيرين وقف التقارب مع دمشق، والعمل بقوة على تعطيل المسار السوري – التركيّ، فإنَّ من المتوقع أنْ نشهد خطوات تقارب عربية أكثر مع دمشق في الفترة القريبة القادمة، وخصوصاً على المسار السوريّ – السعودي، برعاية إماراتية.
ومن المرجّح أيضاً أنْ يُعقد الاجتماعي الوزراي بين وزراء خارجية سوريا وتركيا وروسيا في العاصمة الإماراتي أو في موسكو بحضور عبد الله بن زايد آل نهيان، من دون أن نغفل هنا أنّ خطّ الاتصالات بين طهران ودمشق وأنقرة وموسكو ساخن جدّاً هذه الأيام. ومن الواضح أنّ طهران تشارك بقوة، وعن قرب، في كلّ تلك المساعي المتعلقة بالمسار السوريّ، وأن العواصم العربية تعرف ذلك.
كل تلك المعطيات والمؤشرات المتعلقة بالملف السوري – التركيّ الساخن هذه الأيام تدل على أنّ الطريق شائك رغم كلّ التصريحات والخطوات السياسية (التركية على وجه التحديد) التي توحي بأنّ كل شيء على ما يرام، وأنّ إردوغان يستطيع تحقيق أجنداته بسهولة ومن دون خسائر تُذكر.
يبقى أنّ دمشق تدرك كلّ هذا وغيره، وتتصرف بهدوء وحكمة وقوة في الميدان، وهي في هذه اللحظات بالذات تخوض معارك عسكرية شرسة مع المجموعات الإرهابية المسلحة التي تدعمها أنقرة، أي أرياف حلب والرقة.