مُطارِد أميركا.. ويبقى الأثر
ما الذي تغيّر أو ما الذي حققه الأميركي بقتله غير الحزن في قلوب محبيه؟ ومن المعلوم أن الحزن في قلوب المظلومين يولّد الثورة أو يؤججها.
"ساحة المعركة هي الجنة المفقودة للبشرية؛ الجنة التي تكون فيها الأخلاق والسلوك البشري في أوجهما". (الشهيد قاسم سليماني – 2009)
عندما انفجرت السيارة التي تقل الفريق قاسم سليماني ومعه نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي من مطار بغداد الدولي بعدوان أميركي فجر الثالث من كانون الثاني/يناير 2020، كان العالم كلّه يعلم من هو سليماني وما مهامه ومن هم أعداؤه. لم يعرف العالم ذلك من سيرة حياةٍ كتبتها الصحف. عرف ذلك مِمن قتله، ومن الأسباب التي دفعته إلى قتله.
لم تدرس الاستخبارات الأميركية شخصية سليماني الذي ترك المدرسة في سن 13 عاماً للعمل في مواقع البناء في كرمان ومساعدة والده على تسديد الديون التي تسبب بها "الإصلاح" الفاشل للأراضي الذي أقره الشاه. لم تدرسها من أجل تتبعه واغتياله فحسب، بل أيضاً من أجل فهم المنطلقات التي تصنع تلك الشخصية والقضاء عليها لمنع تجددها، لكن في لحظة من التاريخ صنعها بنفسه، تحولت شخصية سليماني الثورية إلى مشروع، وتحول المشروع بدوره إلى ثورة لا يحدّها إلا ما خطّه بيده قبل استشهاده.
في مجلة "نيويوركر"، يتحدث الصّحافي ديكستر فيلكينز (Dexter Filkins) في مقال "The Shadow Commander" (قائد الظل) عمّا أخبره به مسؤول عراقي كبير عن شخصية الشهيد قاسم سليماني. يقول إن "سليماني يتمتع بالحضور والكاريزما الهائلة. يمكن أن يكون في الغرفة 10 أشخاص. وعندما يدخل سليماني، لا يأتي ويجلس معك. يجلس في الجانب الآخر من الغرفة بمفرده، وبطريقة هادئة للغاية، ولا يتكلم، ولا يعلق. يجلس ويستمع فقط. بالطبع، يفكر الجميع فيه فقط... إنه ذكي للغاية وإستراتيجي بشكل مخيف".
لم يكن سليماني في هدوئه ورصانته قائداً أو مسؤولاً أو مشرفاً فحسب. كان حالة بحد ذاته، أو لنقل كان مشروعاً لذلك. لم يكن يفكّر بطريقة إستراتيجية فقط، بل كان الإستراتيجيا بمفهومها السياسي والأمني. دبلوماسي غربي تحدث في هذا الأمر لفيلكينز عام 2013، وقال إن طهران لم تبدأ بخطة رئيسية لبناء محور المقاومة، لكن الفرص ظهرت. وفي كل حالة، كان سليماني أكثر ذكاءً وأسرع وأفضل موارد من أي شخص آخر في المنطقة. ومن خلال اغتنام الفرص فور ظهورها، بنى الشيء ببطء، ولكن بثبات.
نظر أعداء سليماني إليه نظرة غير العارف دائماً. لذا، فإن خطواته، حتى تلك المتوقعة، كانت مفاجِئة وغير محسوبة النتائج. والسؤال المطروح لم يكن: ما الذي سيفعله سليماني؟ بل ما الذي سنفعله مع سليماني؟ من هنا، فإن مطاردته الاحتلالَ والهيمنة الأميركية في كل مكان وضعت واشنطن أمام خيارات جميعها صعبة. ومن اليوم الأول الذي تعرفت فيه الاستخبارات الأميركية إلى سليماني، كان الأخير حريصاً على التعامل مع الأميركي من موقع المواجهة في أدق التفاصيل وأقلها أهمية.
عندما سافر ريان كروكر، المسؤول الكبير في وزارة الخارجية الأميركية، سراً إلى جنيف في الأيام التي تلت هجمات 11 أيلول/سبتمبر للقاء مجموعة من الدبلوماسيين الإيرانيين، بدا واضحاً له أن الإيرانيين كانوا يصغون إلى سليماني المعيّن حديثاً قائداً لـ"قوة القدس"، ويشيرون إليه بـ"حاج قاسم"، كما ذكر. لم يُفاجأ كروكر عندما اكتشف أن سليماني كان مرناً. وأحياناً، كان ينقل رسائل إلى كروكر، لكنه تجنب كتابة أي شيء. وتعليقاً على ذلك، قال: "طريقة حاج قاسم ذكية للغاية... لن يترك آثاراً ورقية للأميركيين".
القصة بدأت من هنا: "يستطيع قاسم سليماني، إذا كان راغباً في ذلك، قيادة سيارته من طهران إلى حدود لبنان مع فلسطين المحتلة من دون توقف". هذا ما ذكره ضابط الاستخبارات الأميركي السابق علي صوفان في دراسته المعنونة "قاسم سليماني وإستراتيجية إيران الإقليمية الفريدة"، الصادرة عام 2018. رئيس "الموساد" الإسرائيلي تحدث عن ذلك بطريقته، قائلاً إن "المسار نفسه سيكون مفتوحاً لشاحنات محملة بالصواريخ متجهة إلى حزب الله". وبذلك، حدد الأميركي، ومعه الإسرائيلي، كملحق عسكري في المنطقة، خطوات سير سليماني على أنها مسار الصراع من إيران والعراق إلى سوريا ولبنان.
عام 2006، وبعد العدوان الإسرائيلي على لبنان، أرسل سليماني رسالة إلى قوات الاحتلال الأميركية يعلمهم فيها أنه "كان مشغولاً في بيروت"، ومتمنياً "أن يكونوا قد استمتعوا بالهدوء في بغداد" خلال غيابه. حينها، كانت الولايات المتحدة تحارب لأجل "شرق أوسط جديد"، وترسم معالمه انطلاقاً من احتلالها العراق، وربطاً بحربها ضد لبنان وحزب الله.
كان سليماني على الجبهتين وقتها، ليس لكونه داعماً لتحرر شعبيهما فحسب، وهذا الأساس، بل لأن العدو هو أميركا أيضاً. ينظر البعض إلى تحركات "الحاج القاسم" بوصفها كانت دفاعاً عن مصالح إيران الحيوية في المنطقة، وهذا أيضاً حق لها بطبيعة الحال، لكن سليماني كان بارعاً ومجتهداً في ربط مصالح إيران بمصالح المنطقة وشعوبها. الدور الذي أداه في مقارعة الهيمنة الأميركية في فلسطين ولبنان والعراق وسوريا وغيرها من المناطق لم يكن استعلاءً أو نفوذاً أو ضمن شروط. كان هدفه محدداً وضمن قضية محورية.
في الحديث عن سليماني، تبرز مسألة مهمة تتعلّق بقرار اغتياله. لم يكن "قائد الظل" بعيداً من أعين القوات الأميركية طوال فترة تنقله بين الجبهات. ما كان يتردد به الأميركي هو القرار. لذا، إن القرار الذي اتخذه ترامب لم يكن وليد لحظة، ولم يكن قراراً خاصاً، كما حاولت الإدارة الأميركية الترويج له، حين قالت إن "المجنون ترامب" أوعز منفرداً بقتل سليماني.
في اللحظة التي استهدفت الغارات الأميركية خلالها سليماني، كانت الولايات المتحدة هي التي اتخذت القرار بشخص رئيسها؛ فسليماني ليس عدواً لترامب أو بومبيو فقط. هو عدو يهدد نفوذ الدولة وهيبتها في مناطق هيمنتها. وبناء عليه، فإن من يتحمل المسؤولية ومن سيتلقى الرد هو الوجود الأميركي في المنطقة بأكمله، برئاسة بايدن أو ترامب أو أياً يكن... وهذا ما أعلنه صراحة قادة محاور المقاومة على مدى السنوات الماضية.
في رحلته الأخيرة، من بيروت إلى دمشق، وصولاً إلى بغداد، وبعدها طهران شهيداً، أظهر سليماني، قاصداً ذلك، الخريطة التي يطارِد من خلالها الوجود الأميركي. خطواته تلك كانت إيذاناً بعصرٍ جديد، وهي أيضاً تلخّص جهاده وحياته، ولأجلها قُتِل. من الخطأ حتى في التحليل السياسي والأمني القول إن واشنطن كانت تبحث عن سليماني لتقتله، بل قتلته، وكان معلوماً لها مكانه، وكان هو من يبحث عنها ويطاردها بين عواصم المقاومة والمواجهة.
في ذكراه الثالثة، ما الذي تغيّر أو ما الذي حققه الأميركي بقتله، غير الحزن في قلوب محبيه؟ من المعلوم أن الحزن في قلوب المظلومين يولّد الثورة أو يؤججها. هذا ليس كلاماً وجدانياً وانتهى الأمر، بل واقع تعيشه ساحات الصدام مع الهيمنة الأميركية. صواريخ المقاومة في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق، المستمرة في التصويب على عدوها، تحدث الأميركي والإسرائيلي عن جدوى قتل سليماني.
"شهيد فلسطين" عبارة تليق به وتليق بجرائم أعدائه. في الشكل، خسرت فلسطين شخص قاسم سليماني، لكنها لم تخسر، ومعها شعوب المنطقة الحرّة، مشروع قاسم سليماني. أمّا في المقلب الآخر، فقد ظنّت الولايات المتحدة أنها ربحت بعدم وجود شخص قاسم سليماني، في حين أنها خسرت ببقاء مشروعه وتمدده. وبين هذا وذاك، ما يبقى فقط هو الأثر.