مسار أنقرة ـ دمشق: طريق إردوغان الوَعِر
تقف الولايات المتحدة الأميركية بكلّ قوتها في وجه أيّ تقارب سوريّ-تركيّ، لأنّه يُعتبر انتصاراً لدمشق وحليفيها الإيراني والروسي أوّلاً، ولأنّ فيه، إذا ما تحقّق، ضرباً لمصالحها في الشرق السوريّ
صحيحٌ أنّ عالم السياسة لا يعرف الصداقات الدائمة ولا العداوات المُزمنة، لكنّ حالة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، تبدو فريدة ومثيرة للاهتمام في طريقة تظهيرها لهذه القاعدة، كما في طرق تعاطيها مع جميع قواعد السياسة التقليدية. فالرجل قد يهوي من قمّة الصداقة والوئام، إلى آخر حدود الشراسة في الخصومة والعداوة والاعتداء، في لحظة واحدة، إذا ما لاحت أمامه فرصة يرى أنها قد تحقق له اصطياد مصلحةٍ "شخصيّة" ومكاسب تتعلّق بطموحاته الفردية التوسعية التي يمكن أن تبلغ آفاقها حدود الإمبراطورية العثمانية الغابرة، وهو لهذا، وفي سبيل هذا، قد يدوس على كل شيء، بما في ذلك البشر والحدود والخرائط والمنطق.
وفي المقابل، لا يرى إردوغان ضيراً في رسم زاوية رجوعٍ حادّةٍ جدّاً عندما يتبيّن فشل مشاريعه أو التأثير السلبي الكبير لخططه وطموحاته تلك على مستقبله السياسيّ، ليبدأ بالدّوس على شعاراته ذاتها أوّلاً، ويُظهر الشخصية النقيضة التي تملك من وسائل التصنّع و"العاطفة" ما يبزّ شخصية البارحة. ولعلّ تعاطي إردوغان مع الحالة السورية منذ العام 2011، وصولاً إلى اجتماع وزراء دفاع البلدين في موسكو الأسبوع الماضي، هو أنصع مثال على تلك الشخصية الفريدة في مراوغاتها وقدرتها على القفز المصلحيّ فوق كلّ خطوط المنطق.
وصحيحٌ أيضاً أنّ إردوغان دُفع بقوّة الظروف القاهرة، ولم يقرّر فجأة ومن دون مقدمات، العودة إلى سلوك طريق طهران-موسكو-"قصر الشعب" في دمشق، مادّاً يده وواطئاً ابتسامته، راسماً على وجهه كل ملامح الخير والسلام والحرص على وحدة وسيادة سوريا. لكنّ كلمات الرجل وخطاباته حتى أشهر قليلة خلت فقط، لا يزال صداها يتردّد في أرجاء البلاد السورية وهذا الشرق، معلنةً أنْ "لا حلّ مع الأسد"، داعية العالم أجمع إلى إسقاط الرئيس السوري و"محاسبته"!.
لكنّ تلك الانعطافة الحادة كانت متوقّعة نظراً إلى الظروف الميدانية المحلية والسورية والإقليمية التي اختبرها الرجل منذ انتخابات العام 2019 على وجه الخصوص، بل منذ العام 2015 على الوجه الأشمل، أي منذ اكتمل عقد حلفاء سوريا في الميدان بحضور الروس، بعد أنْ بات مؤكّداً أنّ دمشق وحلفاءها الإيرانيين والمقاومين تحديداً، لن يسمحوا بسقوط سوريا وأخذها أسيرةً ذليلةً إلى السجن الأميركي، الإسرائيليّ، ورمي قطعة منها في قصر "السلطان التركيّ"، مهما كلّف الأمر.
لذلك يكون من الأصحّ والأنسب والأكثر دقّة، البدء بكتابة هذا الفصل الجديد الذي يتحدث عنه العالم الآن تحت عنوان إعادة العلاقات السورية-التركية أو خلاف ذلك من العناوين، بمفرداتٍ تتعلّق حصراً بنتائج وأثمان التضحيات السورية-الإيرانية- اللبنانية(المقاومة الإسلامية)، وليس بأيّ مفردات سياسية محض مصلحيّة أخرى، لأنّ تلك "المصالح" ذاتها، رُسمت وفُرضت قهراً بالدماء الزكيّة. وتعرف دمشق الآن، وذلك واضح من تصريحات أرفع مسؤوليها وطريقة تعاطيهم الحذرة مع تلك المستجدات، أنها لم ولن تأخذ أيّ شيء من إردوغان أو غيره من الغزاة، إلّا بالقوة وبفعل مراكمة الإنجازات الميدانية والسياسية مع حلفائها أولئك.
يمكن القول إنّ بدء الكيل بميزان "المصالح الدولية" على الأرض السورية، قد بدأ منذ التدخل الروسي في أيلول/سبتمبر من العام 2015، وذلك بعد أنْ وجدت قوى دولية وإقليمية كبرى ( الولايات المتحدة وتركيا وروسيا خصوصاً) نفسها وجهاً لوجه على تلك الأرض، لتتحوّل الساحة إلى ميدان صراع عالميّ مرير، زاد من شدّته وشراسته بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، واحتدام الصراع بين واشنطن وموسكو على امتداد العالم. لكنْ، وفي موضوعنا هنا تحديداً، يجب التذكّر أنّ الحليف الإيرانيّ هو أوّل من استطاع هَزّ الطاولة الإردوغانية في سوريا، عندما أعلن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، في شهر تموز/يوليو الماضي، عن إطلاق بلاده مبادرة لتقريب وجهات النظر بين دمشق وأنقرة لما فيه مصلحة البلدين وإنهاء الصراع في سوريا.
والعارفون بالسياسة الإيرانية، يدركون أنّ حائك السجّاد الإيرانيّ البارع، المعروف بنَفَسه الطويل جدّاً، لا يبدأ أمراً كهذا إلّا بعد دراسة كل جوانبه واحتمالاته، والتيقّن من إلمامه بكلّ الظروف التي ستأخذ بهذا الأمر نحو الاتجّاه الأنسب. ليدخل الحليف الروسيّ بعد ذلك على الخطّ بتزكية إيرانيّة، نظراً لِما لروسيا وأنقرة من مصالح متداخلة ومتشابكة كثيرة، جعلها الصراع حول أوكرانيا أكثر إلحاحاً بالنسبة للطرفين.
وبعد الاجتماعات الأمنية المتلاحقة بين المسؤولين الأمنيين في البلدين منذ تموز/يوليو الماضي، والتي أفضت إلى الاجتماع الأخير الذي جمع وزراء دفاع سوريا وتركيا وروسيا في موسكو، والحديث عن قرب عقد اجتماع بين وزيري خارجية سوريا وتركيا في موسكو أيضاً
( بعد منتصف هذا الشهر كانون الثاني/يناير على الأرجح) والتصريحات التركية المتتالية التي بدأت بتصريحات إردوغان نفسه قبل شهرين عن ضرورة الحديث مع دمشق، وتصريحات وزير الخارجية التركيّ، مولود تشاويش أوغلو، الشهر الماضي حول الارتقاء بمستوى اللقاءات من الجانب الأمني إلى السياسي والدبلوماسيّ، ذهب معظم المحللين والمراقبين باتّجاه القول إنّ "تطبيع العلاقات" بين البلدين وحلّ جميع المشاكل العالقة بينهما، بات قاب قوسين أو أدنى من التحقق، وهذا ما لا يمكن أن يكون واقعيّاً أو ممكناً في المدى القريب أو المنظور، لأسباب عديدة أهمها:
أنّ إردوغان ينطلق في خطته السورية المستجدة تلك، من أسباب داخلية بالدرجة الأولى والأهم والأكثر إلحاحاً، تتعلّق بقرب الانتخابات الرئاسية في بلاده، وخشيته من السقوط أو من منافسة شديدة مع خصومه الذين يتّكئون في المقام الأول على فشله في سوريا، وتحميله البلاد أعباء اقتصادية وسياسية واجتماعيّة قاسية بسبب مغامرته تلك، ولا سيما في ملف اللاجئين الذين استجلبهم من الشمال السوري منذ الأعوام الأولى للحرب، حتى زاد عددهم عن 3 ملايين و700 ألف لاجئ، شكّلوا عبئاً كبيراً على الاقتصاد والاجتماع التركيّ.
ليأتي إعلان إردوغان قبل أشهر قليلة من الانتخابات، عن عزمه التواصل مع دمشق لحلّ هذا الملف، بعد إعاقته لسنوات خطط ومساعي المعارضة التركية التي حاولت حثّه على إعادة العلاقات مع سوريا والخروج من ذاك المستنقع. والمنطقيّ هنا، أنّ عشرات الألوف من المسلحين الذين ربّاهم ورعاهم وسلّحهم وحرّضهم إردوغان على مدى سنوات، والذين يعتنق أكثرهم الفكر التكفيري الإلغائي، وإخراج هؤلاء (والجنود الأتراك ودباباتهم وآلياتهم وتفكيك قواعدهم ونقاطهم) من مناطق الغزو والنفوذ التركيين في "درع الفرات" و"نبع السلام" و"غصن الزيتون" و"درع الربيع"، قبل الانتخابات القريبة أو خلال شهرين أو ثلاثة أو سنة.
هو أمر مستحيل، ودونه معارك شرسة مع العديد من تلك التنظيمات في المقام الأول، والتي لن تقبل بإلقاء سلاحها بسهولة والتخلي عن مكاسبها التي حصّلتها لسنوات برعاية تركية وبقوة السلاح في وجه الأهالي، وتسليم قادتها وكوادرها الذين قتلوا عشرات الألوف من السوريين، للجيش العربي السوري.
إنّ تهيئة الأرض لعودة ملايين اللاجئين، يحتاج بالدرجة الأولى إلى تمويل كبير بمئات الملايين من الدولارات، لتجهيز الشمال سكنيّاً وخدماتيّاً وأمنيّاً، وهذا يتطلب موافقات دولية وتمويلاً أممياً، وهو ما ليس متوفراً أو ممكناً الآن في ظلّ هذا الصراع الدولي، والعداء الغربي لسوريا وروسيا وإيران، وخطط الغرب التدميرية لدول هذا المحور، واستخدامها ملف اللاجئين ومنع عودتهم ضمن تلك الخطط.
تقف الولايات المتحدة الأميركية بكلّ قوتها في وجه أيّ تقارب سوريّ-تركيّ، لأنّه يُعتبر انتصاراً لدمشق وحليفيها الإيراني والروسي أوّلاً، ولأنّ فيه، إذا ما تحقّق، ضرباً لمصالحها في الشرق السوريّ، حيث تحتل آبار وحقول النفط والغاز والقمح وتنهبها منذ سنوات، وتدعم الفصائل الكردية الانفصالية وتمنعها من أي عودة إلى حضن الدولة الأم سوريا. وهنا، بدأت واشنطن بالفعل في تزخيم أنشطتها في الشرق خلال الأسابيع الأخيرة، من خلال إعادة موضعة وتمركز قواتها والقوات الكردية في نقاط وقواعد جديدة، وزيادة التدريبات الميدانية للميليشيات الكردية، وإقرار إعفاءات جديدة من قانون العقوبات "قيصر" للمناطق الشرقية التي تسيطر عليها قوات "الحماية الذاتية"، كما إقرار قوانين عقوبات جديدة على الدولة السورية.
وعليه سيكون أيّ تقارب أو تفاهم سوري-تركي برعاية إيرانية روسية، خطراً جدّاً على خطط ومصالح واشنطن بنظر الأخيرة، حيث سيعني الاتفاق إنهاء حالة الأمر الواقع الكردية في الشرق والتفرّغ لها، والعمل الحثيث على ضرب وجود قوات الاحتلال الأميركيّ هناك، وهو ما يحدث بالفعل من الجانب السوري، حيث تلقت قواعد الاحتلال الأميركي في "حقل العمر" و"حقل كونيكو" هجمات صاروخية من "المقاومة الشعبية" في الأيام الأخيرة، ومن المرجّح أنْ تزداد تلك الهجمات في الفترة المقبلة.
لذلك، ستقوم الولايات المتحدة بتكثيف وجودها العسكري ودعمها للكرد أكثر من السابق، والأهمّ هنا، أنها ستزيد من تواصلها مع الفصائل المسلحة في الشمال السوري، الرافضة لأيّ تقارب تركيّ-سوريّ، وسوف تستخدمها، كما تستخدم الكرد، في إشعال المنطقة وتكثيف الهجمات على القوات السورية والحليفة لها في الشمال والشرق، والخطير أيضاً، أنّ واشنطن التي تعنون احتلالها بمحاربة تنظيم "داعش" الإرهابيّ، ستسهّل عمل هذا الأخير وتُيسّر له زيادة نشاطه في الشرق السوري، كما في كلّ المناطق السورية التي يمكن لقطعان التنظيم الوصول إليها، كما ستعمل على التواصل مع "أبو محمد الجولاني" وهيئته (تحرير الشام الإرهابية) ونقله من الحضن التركيّ إلى الإصطبل الأميركيّ رسميّاً، إذا ما بقي الجولاني على تصريحاته الأخيرة الرافضة لهذا التقارب، وقرّر مواصلة القتال.
والواضح أنّ خطط واشنطن تسير في هذا الاتّجاه، وقد تتفّعل بطريقة أكثر ضرراً في المرحلة القريبة المقبلة، ولا سيما أنّ الميليشيات الكردية الانفصالية تشعر بخطر وجوديّ كبير في ظلّ التقارب التركي-السوريّ، وتعتبر أنها المستهدفة الرئيسية من هذا الأمر، وهي ستقاتل حتى النهاية طالما هناك وجود وغطاء ورعاية أميركية.
أخيراً، وهي النقطة الأهم في هذا المسار كلّه، أنّ دمشق التي باتت تعرف إردوغان جيّداً ولا تثق به مطلقاً، وضعت شروطها الواضحة والدقيقة في هذا الشأن، والتي تتلخّص في إنهاء الاحتلال التركي للأراضي السورية، والوقف الفوريّ لدعم تركيا للفصائل المسلحة والتنظيمات الإرهابية المعادية لسوريا، وتحميل أنقرة مسؤولية إنهاء الحالة الإرهابية التي خلقتها في الشمال السوريّ. غير ذلك، يمكن للاجتماعات واللقاءات أنْ تعود إلى المستوى الأمني الضروريّ، لأنّه من الصعب أن تتطوّر إلى مستويات بعيدة من خلال الكلام والوعود التركية فقط.
تريد دمشق أفعالًا مباشرة وقوية ومؤثّرة بشكل جذريّ على الأرض، ولا تشير الوقائع إلى أنّ بإمكان إردوغان الشروع بها وتحقيق الجزء الأهم منها قبل الانتخابات، ولا تبدو دمشق مستعجلة للقاء إردوغان الذي يسابق الوقت لتحقيق احتياجاته السياسية والانتخابية، وتطبيع علاقاتها معه بشكل كامل. فدمشق بلغت مع حلفائها هذه النقطة بعد صبر استراتيجيّ طويل وتضحيات ثمينة جدّاً، ومراكمة إنجازات قادت إردوغان نفسه إلى هذا الطريق، بعد أنْ عجز عن إفشالها.